سوسن الأبطح- تحية إلى الكاتب والمفكر منح الصلح (1927 - 2014) في الذكرى العاشرة لغيابه. والرجل يستحق أن يُستذكَر ليس فقط لأنه كان عروبياً حتى الثمالة، وسيرته هي دفاع عن الثقافة المشتركة والمصلحة الواحدة، بل لأنه قرر وبملء إرادته، أن يتعفف عن المناصب رغم أنه يتحدّر من عائلة سياسية، وكانت الغوايات حوله كبيرة، كما استغنى عن توقيع الكثير من مقالاته، وهذا نادر في عالم التأليف والفكر، لكن بقيت لنا كتبه ومقالاته التي ذيلها باسمه. لهذا لم يترك لنا سوى القليل من المؤلفات والمخطوطات، والكثير من الأفكار والمواقف والسجالات والذاكرة الشفهية والقفشات الذكية اللاذعة. من هذه الكتب: «المارونية السياسية»، و«الانعزالية الجديدة في لبنان»، «الإسلام وحركة التحرر العربي»، «مصر والعروبة» و«الثورة والكيان في العمل الفلسطيني».
وتكريماً، للرجل الذي قدّم الفكرة الوطنية على المصلحة الشخصية، وخدمة الوطن والعروبة على تلميع الاسم والشهرة، قامت «دار نلسن» بنشر كتاب حمل عنوان «منح الصلح، رأس بيروت، العصر الذهبي، الجامعة والحي» جمعت فيه نصّين لمنح الصلح، نُشرا في مناسبتين مختلفتين وفي موقعين وزمنين مختلفين. الأول هو بعنوان «فصول من ذكريات منح الصلح» وهي أجزاء من سيرة طويلة رواها لمحمد أبي سمرا ونشرت في مجلة «المسيرة» (1980).
والنص الآخر هو «رأس بيروت - العصر الذهبي الجامعة والحيّ» ونشر في مجلة «بيروت والعالم العربي» في عدد أبريل (نيسان) 2007.
هو ابن بيت سياسي، والدته تركية من عائلة حكمت أيام الدولة العثمانية. هذا الجانب التركي لم يحلُ له، هو الذي رأى العروبة هدفاً ونضالاً، فكان يخفيه ولا يتحدث عنه إلى أن تصالح معه.
«كانت والدتي تتدخل أحياناً في السياسة لتحد من غلواء والدي وغلوائي القومي، فتقول: تفتخرون بالعرب؟ أيام الدولة العثمانية كانت هذه الدنيا كلها، بنوابها ووزرائها ورؤسائها يديرها رجل برتبة قائمقام تعيّنه إسطنبول. هذه لم تكن أكثر من نقطة في بحر». وبدلاً من أن تحبطه والدته وتشعره بالدونية، حدث العكس لأن «مرض العروبة كان متمكناً مني إلى درجة أن قول والدتي هذا، ساهم في زرع حب الدنيا العربية الواسعة في قلبي، وفي تعلّقي بالدولة العربية، دولة الوحدة والحلم الواسع. وقد أكون بسبب أصل والدتي مهيئاً لفهم ما تعنيه العلاقة بين العروبة والإسلام».
قد لا يكون منح الصلح معروفاً لكثيرين من العرب، لكن ما جاء في الكتاب الجديد، له أهمية توثيقية تاريخية؛ لأن الرجل شاهد على ولادة الحركات القومية في بيروت، لا بل هو مؤسس لبعضها كونه كان طالباً في الجامعة الأميركية في ذلك الوقت، معقل العروبيين في رأس بيروت، والإنجيليين أيضاً، وهو المزيج الذي صنع روح المدينة. «لو سُئلت أيهما صنع الآخر رأس بيروت أو الجامعة الأميركية، فالبديهي أن الجامعة هي التي صنعت رأس بيروت كما هي الآن، أو كما كانت قبل حرب عام 1975».
رأس بيروت، أي محيط «الجامعة الأميركية»، هو «حي البدايات لأفكار كثيرة ونظريات وأحزاب وحركات ومشاريع من كل لون وجنس، وأنماط حياة ولباس وممارسات دخلت إلى القارتين الآسيوية والأفريقية من باب منطقة رأس بيروت».
تتلمذ الكاتب منذ الابتدائي وصولاً إلى الجامعة على يد معلمين ينتمون إلى المذهب الإنجيلي (البروتستانت) من لبنانيين وأميركان وفرنسيين وسويسريين، ميزتهم حب مهنة التعليم والانفتاح على المستوى العالمي الرفيع من الكتب المدرسية والمناهج وخلقية السلوك الشخصي والتعامل. الثنائي الإسلامي - الأرثوذكسي كان هو الأساس في نسيج رأس بيروت، مع حي صغير للسريان قرب الحمراء وعدد من العائلات المارونية العريقة، الغنية بالأملاك.
أما الإنجيليون كانوا مبشرين حقيقيين، امتاز سلوكهم بالاستقامة، وشكّلوا «صدمة حضارية تلقاها الشرقي من خلال اتصاله الأول بالغربي في مصر أو لبنان، وهي ليست ناتجة من العلم أو اللغة الجديدة، إنما من تفاجئه بدرجة الصدق والبساطة عند بعض الغربيين». لا بل إن «ملامح الحياة العصرية، كما يشرح الصلح، بأشكالها الخارجية وفضائها الحضاري وأزيائها الفكرية والعقائدية بدأت في تلك المنطقة ثم انتشرت كبقعة الزيت في المحيط العربي».
أما الأمر الثاني المهم في رأس بيروت في تلك الحقبة، فهو كثرة العرب الذين جاءوا من كل حدب إلى هذه المنطقة المختلطة. فمنذ عام 1936 بدأ الفلسطينيون يصبحون جزءاً من المجتمع الرأس بيروتي، ثم توافدت عائلات عربية، من كل الجنسيات. حضر هؤلاء بهموم بلادهم وقضاياهم، فأصبحت الجامعة مركزاً لأهم حركة طلابية في المنطقة، حركة لها طابع قومي عام ينصهر فيه الطلاب العرب. بل كانت الأميركية، جامعة عربية: سورية وعراقية وكويتية وسعودية وبحرانية ومصرية وسودانية قبل أن تتأسس لكل هذه البلدان جامعاتها.
ومن بين الأسباب المعزّزة لدور الجامعة الأميركية البيئة المدنية، وامتداد تأثيرها إلى محيطها الجغرافي، من خلال حياة اجتماعية وثقافية وقاعات محاضرات عامة، إلى مجلس الطلبة الذي هو برلمان الطلاب وإلى جمعية «العروة الوثقى» وهي جمعية قومية للطلبة العرب. فالمقاهي والمنتديات بل البيوت حولها، ليست عملياً إلا أجزاء من الجامعة لا تضمها أسوارها. فشملت ليبرالية أجوائها النوادي والمقاهي والمطاعم المحيطة بها لتتحول إلى مختبرات يجري فيها امتحان الأفكار والمعلومات عبر الحوار والتعليق على خبر والتدقيق في إشاعة والتفنيد لرأي أو التهيئة لتظاهرة.
وقد أصبح رأس بيروت منطقة المثقفين العرب ورواد الحركات السياسية. ولو أن بلدية بيروت أو وزارة السياحة فعلت في رأس بيروت ما تفعله مثيلاتها في الغرب فكتبت على هذا البيت، أو هذا المطعم أو ذاك المقهى «هنا كان يتمشّى السياسي أو العالم أو الأديب الفلاني لكان سكان رأس بيروت تعرّفوا على نصف صنّاع النهضة العربية على الأقل على مدى عشرات السنين، ولكانت بكل شوارعها وبيوتها شبه متحف لمشاهير العرب».
يقول الصلح: «عشت شاهداً في رأس بيروت على مراحل التأسيس لأكثر من حزب، كحزب عصبة العمل القومي الذي تأسس بين دمشق ورأس بيروت، والحزب السوري القومي الذي تأسس كلياً في رأس بيروت، وحزب البعث العربي الذي تأسس في دمشق، لكن بعض مؤسسيه تردّدوا من أول تأسيسه إلى رأس بيروت واختاروها في بعض مراحل حياتهم للسكن والعمل». وفي منزل الفتي حيث كان صغيراً ولد «حزب النداء القومي» وتميز منتسبوه بأنهم كانوا القادة الفعليّين لمعركة الشارع السياسي والتقدمي ضد الانتداب الفرنسي. وولدت حركة القوميين العرب من خلايا طلابية في الجامعة، وبدأت رأس بيروت وجو الجامعة الأميركية يتلبننان أي يهتمان بالسياسة في لبنان، منذ معركة الاستقلال اللبناني عام 1943.
بينما كان منح الصلح طالباً في الجامعة الأميركية، كانت حرب فلسطين مشتعلة. وبعد النكبة وُلِدَت بين الطلاب واحدة من أعمق ردات الفعل على الهزيمة. فالشباب في الجامعة عرب، وفلسطينيون، ومن القوميين العرب بنوع أخص. «لذا نشأ آنذاك بعدان جديدان لفكرة القومية العربية: البعد الأول هو أن فلسطين هي قلب الحركة العربية، والثاني هو فكرة الكفاح المسلح، أو العنف الثوري إذا صح التعبير».
كان منح الصلح من الطلاب الناشطين في «جمعية العروة الوثقى»، ومن المسؤولين عن مجلتها «العروة». في ذلك الجو التقى مناضلين كثيرين، منهم جورج حبش وهاني الهندي وكريم مروة وأحمد الخطيب وغيرهم. كم كانت الجزائر قريبة واليمن كذلك، أما فلسطين فكانت في قلب الجميع.
وتحوّل «النادي الثقافي العربي» الذي ينظم معرض الكتاب في بيروت اليوم، مركزاً لتسجيل أسماء المتطوعين للحرب في فلسطين، وأخذهم إلى التدريب، برئاسة الراحل معروف سعد والضابط الراحل محمد زغيب. وفي الليل كان النادي يتحول خلية ثورية، يخطط فيه ثوار وينامون، فتألفت «كتائب الفداء العربي» وأبرز أعضائها جورج حبش وهاني الهندي، وقامت بمحاولة تصفية عدد من الجواسيس وتدمير بعض المؤسسات اليهودية.
لم يكن منح الصلح مناضلاً تنظيرياً على الإطلاق؛ وهو ما جعل الكتابة لديه تأتي في الدرجة الثانية فهو كان من رواد مكاتب الصحف والمجلات وقاعات الندوات والمقاهي. وربما أيضاً هذا ما دفعه إلى الانحياز نحو فعل التأسيس الذي يسمح بتفاعل الحياة مع الواقع والأفكار والناس. فقد أسّس «دار الندوة» عام 1986 و«المنتدى القومي العربي» عام 1990 و«اللقاء الوحدوي» عام 1992 و«المنتدى القومي الإسلامي» عام 1994 وترأس «المركز الثقافي الإسلامي» القريب من بيته في رأس بيروت. ومع كل ذلك «بقي منح الصلح على مشارف كل شيء» - بحسب تعبير الكاتب الكبير سمير عطا الله - في الحياة والأدب والصحافة والسياسة والأحزاب والسلطة. لكن بوصلته بقيت دائماً مصوّبة نحو فلسطين والوحدة العربية وبيروت.