استقطابات ونفوذ.. ما هي مآلات البعد القبلي للصراع في السودان؟  

الامة برس-متابعات:
2024-02-13

 

 

سودانيون نازحون نتيجة الحرب في السودان (أ ف ب)    الخرطوم- يعيد القتال في السودان إلى الواجهة دور القبيلة بمنطقة الساحل، ويفتح الباب لاستعانة كل طرف بالأقارب والحلفاء من الدول المجاورة؛ إذ يقاتل العديد من أبنائها من تشاد وأفريقيا الوسطى ضمن قوات الدعم السريع، فهل الولاء القبلي ظاهرة غريبة على صراعات المنطقة؟

منصة "أسباب" المختصة بالتحليل الاستراتيجي والسياسي ألقت نظرة تحليلية عميقة على البعد القبلي للصراع في السودان ومآلات ذلك البعد على المنطقة والقارة الأفريقية بشكل عام.

خلفيات الصراع في السودان

أجج اندلاع القتال في السودان في منتصف أبريل/نيسان الماضي بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع حالة الاضطراب التي تخيم على منطقة الساحل والصحراء الأفريقية، وهو ما يهدد بانعكاسات على الاستقرار الهش بالمنطقة التي تبدو كشريط أزمات يمتد من سواحل البحر الأحمر إلى ساحل المحيط الأطلسي.

لعقود سابقة، هيمن على النظام الأمني في المنطقة أضلاع ثلاثة: معمر القذافي في ليبيا (1969-2011)، وعمر البشير في السودان (1989-2019)، وإدريس ديبي في تشاد (1990-2021). لكنّ هذا النظام تعرض للاضطراب مع اندلاع الثورة في ليبيا ومقتل القذافي، ثم عزل البشير ومقتل ديبي على يد المعارضة التشادية، ووصل إلى أعتاب التشظي مع اندلاع القتال الأخير في السودان، وتزامنه مع تدهور الوضع الأمني في جمهورية أفريقيا الوسطى، وتنامي الهجمات المسلحة في مالي والنيجر ونيجيريا وبوركينا فاسو وبحيرة تشاد، لأسباب متنوعة في مقدمتها الصراعات بين الرعاة والمزارعين، وأنشطة الجماعات المسلحة مثل بوكو حرام وفروع تنظيم داعش، والنزاعات بين الأعراق والقبائل على الموارد وطرق التجارة والتهريب، مثل العرب والزغاوة والفلان والهوسا والتبو والطوارق والداجو.

أعاد القتال في السودان للواجهة دور القبائل العربية في منطقة الساحل وفتح الباب لاستعانة كل طرف بالأقارب والحلفاء من الدول المجاورة؛ إذ يقاتل العديد من أبنائها من تشاد وأفريقيا الوسطى ضمن قوات الدعم السريع، بينما دخل إقليم دارفور إلى نفق اقتتال تشترك فيه القبائل العربية التي تدعم حميدتي وقبائل أفريقية ساحلية والتي ينتمي لأحدها ميني ميناوي حاكم الإقليم، حيث ينتمي لقبيلة الزغاوة، وهي مجموعة عرقية مسلمة تعيش في شمال شرق تشاد، وغرب السودان خاصة دارفور.

القبيلة تتجاوز الحدود

لا وجود للحدود في أذهان العرب الرحل؛ إذ يولد الشخص في بلد، ويعيش في بلد آخر، ويقاتل في بلد ثالث، فالولاء للقبيلة مقدم على الحدود الدولية المرسومة في عهد الاستعمار. ولذا نجد أن نحو 60% من مقاتلي "الجبهة المتحدة من أجل التغيير" التشادية المتمردة الذين أسرهم الجيش التشادي خلال هجومهم على العاصمة أنجمينا عام 2006 يحملون الجنسية السودانية، كما أن بعضهم قاتلوا سابقاً في أفريقيا الوسطى، حيث أوصلوا الرئيس "بوزيزيه" إلى سدة الحكم في سنة 2003 قبل أن يتمردوا عليه، ويعودوا إلى تشاد بدعم من الخرطوم.

كذلك قاتل 700 من عرب دارفور بقيادة موسى عبد القاسم، من قبيلة المحاميد، ضمن "تحالف سيليكا" ذي الأغلبية المسلمة في دولة أفريقيا الوسطى خلال الفترة 2012 – 2014، فيما تدخلت عناصر الدعم السريع من عرب المسيرية بغرب كردفان في القتال بجنوب السودان عام 2016 دعماً لحلفائهم من قبيلة النوير في مواجهة حكومة سيلفا كير.

كذلك شارك متمردو دارفور في القتال بليبيا، حيث قاتل جيش تحرير السودان بقيادة ميني ميناوي (حاكم إقليم دارفور) في صف قوات خليفة حفتر، بينما قاتلت حركة العدل والمساواة ذات الميول الإسلامية، بقيادة جبريل إبراهيم وزير مالية السودان، بجوار خصوم حفتر، حيث نقلا قواتهما من جنوب السودان إلى ليبيا عبر أفريقيا الوسطى وتشاد ودارفور. وتوضح تلك الأمثلة أن وجود عناصر من تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى ضمن قوات الدعم السريع، ليس بالأمر الجديد ولا الغريب على الصراعات في تلك المنطقة، التي يلعب الولاء القبلي فيها عاملاً حاسماً.

الساحل الأفريقي الملتهب

يشمل الساحل الأفريقي المنطقة شبه القاحلة الممتدة بين الصحراء الكبرى في الشمال وحشائش السافانا في الجنوب، وتظهر كحزام فاصل بين دول شمال أفريقيا العربية من جهة، ودول أفريقيا الوسطى والجنوبية من جهة أخرى، ويضم بداخل هذا الشريط 5 دول أساسية هي موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، والسودان. بالإضافة إلى أجزاء صغيرة من أقصى جنوب الجزائر وأقصى شمال بوركينا فاسو ونيجيريا والسنغال وجنوب السودان وإثيوبيا وشمال إريتريا. وتشير التقديرات إلى أن هذا الشريط أو الحزام الساحلي يقدر بحوالي 5500 كم وبعرض من 350 إلى 500 كم.

تتسم أطراف حدود دول الساحل عادة بانحسار سلطة الدولة وسيادتها، وبروز الهويات العرقية والقبلية، وانتشار العديد من المجموعات الإثنية عبر الحدود، والاعتماد على التهريب كوسيلة لكسب الأموال بالتزامن مع اتساع الفساد بين ممثلي الدولة ذوي الحضور المحدود بالمنطقة. تغذي هذه الأوضاع التوترات الاجتماعية وتؤدي إلى صراعات من أجل النفوذ والتحكم في طرق التهريب والسيطرة على الأراضي، ما يقود إلى صعود جماعات متمردة وانفصالية مسلحة، فضلاً عن عصابات قطاع الطرق وميليشيات محلية للدفاع عن النفس أو الموارد المحدودة.

وفرت تلك الأوضاع بيئة خصبة للجماعات المسلحة العابرة للحدود، مثل بوكو حرام والقاعدة وتنظيم داعش، حيث توظف الفوضى بالمنطقة لتقديم الحماية للسكان، كما توفر القوة اللازمة لحل النزاعات المحلية عبر قضاء شرعي ناجز، وتنظم الوصول إلى الموارد في ظل غياب الدولة.

خلال الآونة الأخيرة، انتشرت خريطة الصراعات من شمال مالي إلى المناطق الريفية في وسطها وجنوب غرب النيجر وشمال بوركينا فاسو، فيما سيطر "الجهاديون" في عام 2022 على منتزه W، وهو عبارة عن محمية طبيعية ضخمة تمتد على أكثر من 10 آلاف كيلومتر مربع في المنطقة الحدودية بين بنين وبوركينا فاسو والنيجر، حيث اتخذوها كقاعدة للتوسع نحو السافانا في غرب أفريقيا. وهو ما يجعل المنطقة مُصدّرة للمهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا في ظل عدم توافر فرص للعمل أو التعليم أو تكوين أسرة مستقرة.

في ضوء ما سبق، يلعب القتال في السودان دور حلقة الوصل بين حروب منطقة الساحل من غرب إلى شرق القارة، وفتح الباب لانخراط القبائل المحلية بقوة في تلك الصراعات التي تغذيها موجات الجفاف، وانتشار البطالة، والصراع على الموارد، فضلاً عن التنافس بين قوى إقليمية مثل مصر وإثيوبيا والإمارات والجزائر وكينيا، وأخرى دولية مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا.

دارفور وصراع القبائل العربية الأفريقية

تبنى الرئيس الليبي السابق، معمر القذافي، مقاربة تتمحور حول التفوق العربي، لكنه أيضاً انفتح على أفريقيا للتملص من الحصار الغربي المفروض عليه، عبر تدشين حزام عربي في القارة الأفريقية، فدعم القبائل العربية في وسط أفريقيا، وبالأخص في تشاد خلال حقبة الحرب الليبية التشادية (1979-1987)، وهو ما دفع الرئيس التشادي حسين حبري (1982-1990) لمعاداة العرب باعتبارهم "أتباع القذافي".

مع تعرض العرب في تشاد للاضطهاد السياسي في ثمانينيات القرن العشرين بالتزامن مع موجات جفاف شديدة أثرت على حياتهم كرعاة إبل، غادر العديد منهم إلى ليبيا والسودان، بمن فيهم أفراد من فرع "أولاد منصور" من عشيرة "الماهرية" من قبيلة "الرزيقات"، بقيادة جمعة دقلو، الذي غادر إلى نيالا في جنوب دارفور عام 1987، ومن تلك العائلة برز ابن شقيق جمعة، محمد حمدان الشهير بحميدتي المولود عام 1973.

سرعان ما تغير الوضع مع سيطرة إدريس ديبي على السلطة في تشاد؛ حيث ينتمي ديبي إلى "الزغاوة" (يطلق عليهم أيضاً بيري) الذين يمثلون حوالي 1٪ فقط من بين سكان تشاد، ويتركزون في شرقها على الحدود مع السودان. وفي ظل افتقاده لقاعدة قبلية واسعة، لجأ "ديبي" إلى كسب ولاء قبائل عربية عبر تعيين العديد من العرب ضمن الدائرة المقربة منه مثل: بشارة عيسى جاد الله، وزير الدفاع السابق، وابن عم حميدتي، ووزير الخارجية السابق محمد صالح النظيف (قبيلة المهارية).

أدى الجفاف إلى صراع بين الرعاة والمزارعين امتد من دارفور إلى تشاد وأفريقيا الوسطى والكونغو، حيث دفع تغير المناخ الرعاة إلى الاتجاه جنوباً خلال موسم الهجرة السنوية، ليصطدموا مع سكان المجتمعات المحلية حول الوصول إلى المياه والمراعي، واتهم المزارعون الرعاة بتدمير محاصيلهم ومقاسمتهم للمياه، وهو ما أدى إلى اقتتال بين الطرفين.

هرباً من الجفاف بدأت بعض القبائل العربية تميل نحو الاستقرار، فأثار ملف توطين الرعاة الرحل العرب قلق المجتمعات الزراعية التي خشيت من فقدان أراضيها، ومن تحول العرب إلى قوة سياسية مستقرة ذات قاعدة مجتمعية. فيما اعتبر العرب الرحل أنهم يعاملون مثل الأجانب في منطقة عاشت فيها أسرهم منذ عقود، وطالبوا بحقهم في ملكية الأراضي.

برزت إحدى بؤر الصراع في إقليم دارفور، الذي يشترك في الحدود مع ليبيا ومصر وتشاد وأفريقيا الوسطى، بداية من عام 2003 بين قبائل أفريقية مسلمة (فور -التي أعطت للإقليم اسمه- وزغاوة، ومساليت) تعمل في الزراعة، وقبائل عربية، في بداية الأمر، تعمل برعي الإبل (إبالة). وفي ظل انشغال الجيش بقتال الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب، في حرب أخذت بعداً دينياً، خشي رئيس السودان السابق عمر البشير من أن يكون التمرد في دارفور مؤامرة مدعومة من الجنوبيين لفتح جبهة جديدة في الغرب تستنزف الحكومة، فلجأ إلى تسليح قبائل عربية وأخرى وافدة من غرب أفريقيا، مثل الفلاتة، لمواجهة تمرد الجماعات الدارفورية، الفور والزغاوة والمساليت، ذات العرقية الأفريقية، ووعدت الحكومة القبائل العربية بمنحها ملكية الأراضي الخصبة غرب جبل مرة بدارفور حال تصديها للمتمردين.

أدت تلك المعطيات، بحسب تقديرات مجموعة الأزمات الدولية، إلى وصول عدد مسلحي القبائل الداعمة لحكومة الخرطوم إلى أكثر من 10 أضعاف القوات النظامية السودانية المنتشرة في دارفور، والبالغ عددها نحو 40 ألف جندي سوداني. فيما اشتهر أنصار الحكومة من أبناء القبائل العربية باسم الجنجويد، نسبة -بحسب بعض الآراء- إلى "الجنيد بن عبد الله الجهني" الجد الأكبر لعرب دارفور وتشاد، والمنتمي إلى قبيلة جهينة العربية الشهيرة.

ساهمت أزمة دارفور في توتر العلاقات بين الجماعات العرقية المختلفة؛ حيث نزح أكثر من مليوني شخص بحلول عام 2005، واشتد الصراع بين الزغاوة، القبيلة الأكثر تمثيلاً في الجماعات المتمردة في شرق دارفور، والتي ينتمي لها الرئيس التشادي ديبي"، وبين إبالة الرزيقات من العرب المنتشرة في دارفور وتشاد.

وتحالفت الجماعات المتمردة في دارفور مع "الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال"، التي كانت تقاتل الجيش السوداني في جنوب كردفان والنيل الأزرق. وبذلك تحول الصراع إلى مزيج من التمرد ضد الدولة، والاقتتال العرقي بين قبائل أفريقية وعربية، وتمثل القبائل العربية نحو 40٪ من إجمالي سكان الإقليم البالغ نحو 6 ملايين نسمة، فيما يؤكد قادة تلك القبائل أنهم يمثلون 70% من سكان الإقليم.

في عام 2006 اندلعت اشتباكات بين القبائل العربية وبعضها حول ملكية الأرض والموارد، مثلما حدث في قتال السلامات ضد المسيرية والتعايشة في منطقة أم دخن على حدود تشاد ودولة أفريقيا الوسطى؛ والصراع حول منجم ذهب جبل عامر بشمال دارفور بين إبالة الرزيقات وبني حسين وبقارة المسيرية (رعاة البقر)، ضد الرزيقات والمعاليا في شرق دارفور.

تهميش القبائل العربية وصعود حميدتي في السودان

مع انخراط حكومة البشير في مفاوضات سلام مع متمردي دارفور في العاصمة النيجيرية أبوجا عام 2006، تجاهلت الخرطوم القبائل العربية التي قاتلت معها، ورفضت إشراكها بوفد في التفاوض، ثم عينت زعيم المتمردين ميني ميناوي كبيراً لمستشاري البشير، ووجد زعماء القبائل أنهم سيخرجون دون مكتسبات، وأن الحكومة تضحي بهم مقابل بقاء نظام البشير.

نتيجة لذلك؛ تمرد عدد من القادة العرب عام 2007، مثل موسى هلال زعيم المحاميد، وحميدتي رجل ماهرية الرزيقات القوي بجنوب دارفور، وأطلق حميدتي على قواته اسم "الوعد الصادق"، قائلاً إنه يقاتل من أجل العدالة للعرب، وطالب بحقوق القبائل العربية غربي السودان في الخدمات الصحية والبيطرية والتعليم، فضلاً عن تعويض قتلاها وجرحاها في الحرب، وفتح مسارات التنقل والرعي أمام مواشيها في ممر "الفاشر – نيالا" الذي أغلقه المتمردون من زغاوة شمال دارفور.

 في عام 2008 عاد حميدتي إلى صف الحكومة، في ظل عدم حصوله على دعم إقليمي من ليبيا أو تشاد، وإغراء الخرطوم له بالأسلحة والأموال فضلاً عن تقنين وضع قواته. ثم جاء هجوم حركة العدل والمساواة الدارفورية على مدينة أم درمان في عام 2008، ووصولها إلى مشارف القصر الجمهوري للبشير، ليعزز من دور حميدتي وقواته كخط دفاع متقدم في دارفور، فتم تأطير قواته تحت اسم حرس الحدود قبل أن يتحول اسمها لاحقاً إلى الدعم السريع في عام 2013، ثم أصبحت تحت الإشراف المباشر للرئيس عمر البشير بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، وكان ذلك عام 2016.

انخرطت القبائل العربية في عدة نزاعات بوسط وغرب أفريقيا، حيث شهد شرق تشاد صراعات متكررة بين القبائل العربية والأفريقية، وفي بحيرة تشاد (تطل عليها تشاد والكاميرون والنيجر ونيجيريا) يتنازع العرب والهوسا حول تجارة الماشية، كما يتعرض الرعاة العرب الذين يهاجرون موسمياً بمواشيهم من السودان وتشاد إلى أفريقيا الوسطى لهجمات من الميليشيات المحلية، ما دفعهم لتشكيل مجموعات مسلحة للدفاع عن تجارتهم. كما تشهد أفريقيا الوسطى منذ الإطاحة بنظام "فرانسوا بوزيزيه" عام 2013، صراعاً يستهدف الفولاني والعرب المسلمين باعتبارهم أجانب.

تلك الأزمات المتشعبة، وافتقاد القبائل العربية في المنطقة لرمز يعبر عنهم، أنتجت شعوراً بأن وجودهم مهدد، وهو ما ولد فرصة سانحة يعمل حميدتي على الاستفادة منها عبر تقديم نفسه كممثل للعرب المهمشين في تلك المناطق، ومدافع عنهم، ما جعل العديد من أبناء القبائل العربية من غرب السودان إلى تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى، يطلقون عليه لقب "القائد"، ويقاتلون في صفوف قواته.

حدود الفوضى: السودان – ليبيا – تشاد

تقع قبيلة "التبو" في واحات جنوب ليبيا، لا سيما في فزان والكفرة، كما في شمال تشاد، حيث تمثل 7% من إجمالي سكان البلاد. وتمتد إلى شرق النيجر حتى حدود صحراء تينيري، وهو ما يضعها في صدام في ليبيا مع قبائل أولاد سليمان العربية، ومع الطوارق، للسيطرة على الأراضي والموارد وطرق التهريب.

وتختار قبائل التبو، الشهيرة باسم القرعان، زعماءها من بين الذين يعيشون في تشاد وليبيا والنيجر دون اعتبار لمعيار الجنسية، ويتمتع التبو بعلاقات جيدة مع أنجمينا التي قدمت لهم المساعدة للسيطرة على الجنوب الليبي في مواجهة الطوارق والعرب، وذلك ليعملوا كحاجز ضد الجماعات المسلحة التشادية التي تتخذ من ليبيا قاعدة خلفية لها.

ومنذ استقلال تشاد عام 1960، تمتعت تيبستي بخصوصية؛ فهي منطقة جبلية نائية في أقصى الشمال الغربي لتشاد تشترك في الحدود مع ليبيا، حيث شكلت ملاذاً طبيعياً للمتمردين، تنامى بعد الفوضى التي شهدتها ليبيا عقب سقوط القذافي، حيث أصبحت تبيستي أحد أبرز مسارات تهريب البشر من أفريقيا إلى أوروبا عبر السواحل الليبية، وتهريب المخدرات القادمة من أمريكا اللاتينية وغرب أفريقيا إلى مصر وشمال القارة.

بين عامي 2011 و2013، اكتشف العديد من مناجم الذهب في الساحل والصحراء بداية من السودان إلى موريتانيا. وهرع عدد كبير من عمال التعدين إلى مناجم جبل عامر بشمال دارفور، ومنطقة دجادو في النيجر، والمنطقة الواقعة بين أوزو والقطرون في شمال تشاد وجنوب ليبيا. وهو ما جعل المنطقة تعج بصراعات بين القبائل وأعضاء الجماعات المسلحة التشادية والسودانية وعمال التعدين، وقوات الجيش في تشاد والنيجر ومالي، والدعم السريع بالسودان. فيما تخشى أنجمينا من استغلال الجماعات التشادية المسلحة لعوائد الذهب في تطوير قدراتها، فضلاً عن الانخراط في شراكات مع عناصر الجيش المخولة بحراسة الحدود.

حدود الفوضى.. نهاية حكم ديبي والخوف من شبح حميدتي

طرح الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي نفسه كحليف لفرنسا، وضامن للأمن الإقليمي بعد مقتل الرئيس الليبي معمر القذافي، فنشر جيشه في عام 2014 في النيجر والكاميرون لقتال عناصر بوكو حرام، كما أرسل قواته إلى مالي لقتال عناصر جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وشارك بنحو 1200 جندي في قوة مجموعة دول الساحل الخمسة G5 المنتشرة في المثلث الحدودي بين بوركينا فاسو ونيجيريا ومالي، كما قاد بنفسه القتال ضد بوكو حرام في بحيرة تشاد عقب مقتل 100 جندي تشادي على يد عناصرها عام 2020.

لكن نهاية حكم ديبي الذي بدأ عام 1990 جاءت في عام 2021 على يد مسلحين من جبهة التغيير والوفاق "فاكت" المتمردة، خلال هجوم شنته "فاكت" انطلاقاً من جنوب ليبيا باتجاه العاصمة أنجمينا، وهي حركة أسسها اللواء محمد مهدي بعد أن قاتل سابقاً في صفوف حركات مسلحة في تيبستي شمال تشاد ودارفور وليبيا. ووفقاً لتقرير صادر عن فريق خبراء الأمم المتحدة المعني بليبيا فإن "فاكت" قاتلت بجوار حفتر في ليبيا، كما تقاطعت مع عناصر فاغنر الروس، وهو ما مكنها من تكديس عربات وأسلحة متوسطة وثقيلة استخدمتها في الهجوم على نظام ديبي في تشاد.

عقب عزل البشير، وصعود نجم حميدتي في السودان كنائب لرئيس مجلس السيادة، توسعت قوات الدعم السريع في التجنيد من القبائل العربية في تشاد، كما جندت من أبناء القبائل الأفريقية الذين يبحثون عن وظيفة ودخل مالي. ومع اندلاع القتال الأخير في السودان أعلن المجلس العسكري التشادي الحاكم بقيادة نجل ديبي، دعمه للجيش السوداني في مواجهة الدعم السريع. لكن هذا الموقف يحمل في طياته مخاطر نظراً لوجود شخصيات تشادية قوية مقربة من حميدتي مثل بشارة جاد الله وزير الدفاع التشادي السابق، وابن عم حميدتي.

وتخشى أنجمينا من أن يعود حميدتي حال خسارته القتال في الخرطوم إلى دافور ليشكل تحالفاً مع المعارضة التشادية المسلحة، ما سيهدد النظام التشادي الذي لا يتجاوز حجم جيشه نصف حجم قوات الدعم السريع، والتي تُقدر حالياً بنحو 100 إلى 120 ألف فرد، خاصة أن الجيش التشادي ينتشر على طول حدود البلاد للتعامل مع تهديدات مختلفة، فهو يقاتل في بحيرة تشاد ضد بوكو حرام، ويقاتل في الشمال ضد الجماعات المتمردة المتمركزة في ليبيا، والآن سيضطر لتعزيز وجوده في الشرق على الحدود مع دارفور.

الخاتمة

السودان هو الدولة الأكبر من حيث عدد السكان وحجم القوات المسلحة في منطقة الساحل. ولذلك؛ يفتح انزلاقه إلى حرب أهلية الباب أمام فوضى طويلة الأمد تضرب الشريط الممتد من شرق أفريقيا إلى غربها، تهدد بالدرجة الأولى وحدة السودان، كما لا يستبعد أن تنتقل مآلاتها إلى تشاد وأفريقيا الوسطى بحكم القرب الجغرافي والامتداد القبلي. وفي الوقت نفسه، تظهر ليبيا وتشاد كقاعدة خلفية للأطراف المتقاتلة للتزود بالوقود والغذاء والسلاح.

إن الحدود المفتوحة لدول تشهد صراعات داخلية وانتشاراً للسلاح مثل ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، واشتعال صراعات في المحيط الأوسع في مالي ونيجيريا والنيجر وإثيوبيا والصومال، وحضور البعد القبلي والعرقي والجهوي في أغلب تلك النزاعات، بالتزامن مع انتشار الجفاف وزيادة التصحر والتغيرات المناخية، يعني أن القارة الأفريقية قد تكون مقبلة على صراعات هي الأكثر دموية في العصر الحديث.

وفي الجانب الأوسع، لا تنفصل هذه الانقسامات عن التنافس الجيوسياسي المحموم بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث يسعى كل طرف لتوظيف أطراف الصراع من أجل ترسيخ نفوذه في السودان بصورة خاصة ومنطقة الساحل بصورة عامة. كما أن تناقض مصالح الأطراف الإقليمية، خاصة الإمارات ومصر وإيران وتركيا، يضيف المزيد من التعقيد، ويجعل من المرجح إطالة أمد الحرب الأهلية الراهنة في السودان.

 








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي