النقد الناعم للصهيونية والرواية التوراتية في كتاب «السيونيزم»

2022-01-14

عبد القادر ياسين*

اقترنت مرحلتا العبودية والإقطاع، في أوروبا، بعسف شديد، على الطائفة اليهودية هناك، التي أُجبرت على أن تتجمع في «غيتوهات» وكلما حلَّت ضائقة اقتصادية بمجتمع أوروبي ما، عمد حاكمه إلى حرف سخط المواطنين لليهود، وبعضهم مارس الربا، باعتبارهم المتسببين في هذه الضائقة، وبذا، يُبعِد الحاكم المعني عنه، سخط الأهالي من جهة، كما يُخلِّصه من إدانته، من جهة أخرى. ووصل الأمر ببعض الدول الأوروبية حد إخراج الطوائف اليهودية، وإبعادها عن البلاد، على أن قيام الثورة الفرنسية، أواخر القرن الثامن عشر، اقترن بهدم أسوار «الغيتو» وأخذت الرأسماليات الأوروبية الغربية، تدعو اليهود للعودة إلى الأقطار التي سبق أن طُرِدوا منها؛ لا لشيء، إلا لشدة حاجة تلك الرأسماليات إلى أموال الطائفة اليهودية.
ما أن تطورت الرأسمالية الأوروبية الغربية إلى مرحلة الإمبريالية، أواسط القرن التاسع عشر، حتى توسَّعت في احتلال أقطار أُخرى، الأمر الذي ترتبت عليه ضغوط شديدة على الفئات الوسطى الأوروبية، ومن ضمنها الفئات الوسطى اليهودية في تلك الأقطار، ما دفع الأخيرة إلى التفتيش عن حل فريد لأزمتها، وجدته في ملاذ اقتصادي آمن. في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا ـ رأس المعسكر الإمبريالي آنذاك ـ تتطلع لزرع جسم موالٍ لها في الوطن العربي، يحول دون وحدته، أو ظهور دولة عربية قوية، كما يحمي قناة السويس، الشريان الرئيسي الذي يصل بريطانيا بمستعمراتها، في الشرق الأقصى، فضلًا عن حراسة المصالح الإمبريالية في الوطن العربي. هنا، التقت أطماع الطرفيْن؛ فوُلدت الحركة الصهيونية (1897) وطلبت الإمبريالية البريطانية إلى المؤتمر الصهيوني الخامس (1903) الرسو على فلسطين، من بين بقية الخيارات (الأرجنتين، أُوغندا، فلسطين، قبرص، وسيناء) وكان لبريطانيا ما أرادت، خاصة أن الصهيونية رأت في فلسطين ما يُكسب الحركة نسبة كبيرة من جمهرة اليهود في العالم، بزعم أنها «أرض الميعاد» وأن «الله وعدهم بالعودة إليها». وهنا لم يكن غريبا أن تتشح القيادة الصهيونة (العلمانية) بالدين اليهودي. فضلا عن أن تلك القيادة اعتبرت الصهيونية تعبيرا عن «القومية اليهودية» بينما اليهودية ملَّة، وأبعد ما تكون عن القومية، وكل فرد في أي طائفة يهودية إنما ينتمي إلى القومية التي عاش بين ظهرانيها.
بصدد «أرض الميعاد» و«العودة» يحضرني اللقاء اليتيم بين الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، والبابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية، وبطريرك الكرازة المرقسية، وسائر بلاد المهجر، قبل نحو 35 عاما، استغرب الأول كيف لشنودة أن ينفي كون اليهود هم «شعب الله المختار». فرد شنودة بأنهم كانوا كذلك، قبل وصول المسيحية، ومن بعدها الإسلام. عاجله كارتر بسؤاله «كيف ينفي عودة اليهود إلى أرض الميعاد بوعد من الرب؟» رد شنودة: «هم جاءوا إلى فلسطين بوعد من بلفور» لذا، لم يكن غريبا أنه بعد «اتفاق أوسلو» عُقد لقاء في مبنى جامعة الدول العربية، في القاهرة، وحين طلب ياسر عرفات إلى البابا شنودة زيارة القدس، رد شنودة، من فوره، لن أزورها قبل تحريرها، و«رجلي على رجل شيخ الأزهر».

٭ ٭ ٭

نأتي إلى فلسطين، التي وقعت تحت الحكم العثماني، نحو أربعة قرون متصلة (1516 – 1918) ما أمد في عمر تخلُّف فلسطين، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا. ومع فلسطين، جاءت كل الولايات العربية تحت الحكم العثماني. هنا، غدا كبار الملاك العرب الفلسطينيين بمثابة حلقة الوصل بين أهالي فلسطين، والحكم في الآستانة، وفي الوقت نفسه، فإن كبار الملاك هؤلاء شجعوا الفلاحين العرب الفلسطينيين، على التنازل لهم عن الأراضي، حتى يتهرَّب الفلاحون من الضرائب والتجنيد، على حد سواء! فتضخمت حيازات أولئك الملاك من الأراضي. ترتَّب على هذا كله أن أصبح كبار الملاك الطبقة السائدة في فلسطين، بلا منازع. وقد اختارت هذه الطبقة بعض أبنائها لتلقي العِلم في جامعات أوروبا، أو في الجامعة الأمريكية في بيروت؛ فامتلك هؤلاء الأبناء الهيبة الثقافية، بعد أن كان آباؤهم ورَّثوهم الهيبة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ما كان لهؤلاء الأبناء إلا ان يشاركوا ـ بطريقتهم ـ في الكفاح الوطني. ولأن الصهيونية أطلت برأسها، كعدو، يبغي السطو على الأرض الفلسطينية، واجتثاث شعبها؛ فقد جاء من نبَّه من خطر تلك الحركة، وأخذت صحيفة «الكرمل» لصاحبها ورئيس تحريرها، نجيب نصار، على عاتقها هذه المهمة، منذ كانت هذه الصحيفة (1908) تلتها صحيفة «فلسطين» بدءا من عام 1911. أضاف نصار إلى حملاته الصحافية، كراسا استقى معلوماته من «الموسوعة اليهودية» وإن تولى هذه المعلومات بالنقد والتشريح.

 

يُصدم من يقرأ الكتاب، حين تقع عيناه على أن الصهيونية ظهرت بتأثير عاملين: أولهما اضطهاد اليهود، وثانيهما انتباه الشعور القومي فيهم. والأنكى أن وليد الخالدي رأى في هذا تفسيرا ذا «وجه من الصواب، والسداد، كما يبدو التقبُّل والاستحسان، لدى روحي لمطابقته لقناعاته».


إن كل ما سبق لا يعنى أن كبار الملاك، والمثقفين المعبِّرين عنهم، قد تخلَّوا عن النضال الوطني، وإن حرصوا على ألا يُزعجوا أحدا في ما يكتبون، أو يسلكون؛ مكتفين بالتعريف بالصهيونية، بكلماتها هي. غنيٌ عن القول إن هذا كله أهَّل كبار الملاك إلى احتكار قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، على مدى مرحلتها الأولى (1918 – 1929)؛ ما مكَّنهم من فرض برنامجهم على تلك الحركة، خلال المرحلة الموما إليها.

ويمكن اختصار هذا البرنامج في:
العداء لليهود، كدين، وليس كحركة استعمارية، استيطانية، اجتثاثية، إحلالية؛
الاحتكام لعدونا الرئيسي (الإمبريالية البريطانية) في هذا العداء؛
فرض أساليب كفاح متواضعة؛ لم تتعد المذكِّرة، والمؤتمر، والوفد إلى حكومة لندن حينًا، وإلى المندوب السامي البريطاني في القدس أغلب الأحيان.

٭ ٭ ٭

بعد هاتين الإضاءتين، نعود إلى موضوع كتاب خالد الحروب.
لقد ندرت الكتب التي حفزت على تأليف كتب أخرى في مواجهتها، وفي هذا الصدد يأتي كتاب روحي الخالدي «السيونيزم» الذي حثَّ خالد الحروب على التصدي له «منطلقا من إحساس بمسؤولية علمية، ومسؤولية وطنية أيضا». ذلك أن كتاب الخالدي لا يمكن الصمت حياله؛ أولا لمضمونة الخطر، وثانيا لأن الخالدي من رواد مثقفينا الأوائل، الذي ترك لنا مؤلفات مدققة، ورصينة؛ مثل «أسباب الانقلاب العثماني» و«الأدب عند العرب والإفرنج وفيكتور هوغو» و«الكيمياء عند العرب» وثالثا لأن المفكر الفلسطيني العريق والمرموق، وليد الخالدي أقدم على نشر هذا الكتاب، بينما كان مخطوطا، لم يعمد صاحبه إلى نشره، ربما لأن العمر لم يمتد به، وربما تركه، إلى أن يفيه حقه. أما وقد أصبح كتابا بين أيدينا، فإن واجبنا أن نتعامل معه بجدية، ومسؤولية؛ وليس في هذا أي استغابة، أو نميمة، أو اغتيال لروح الخالدي.
أعطى الحروب المؤلف حقه، حين استهجن الأول «كيف يصدر هذا الكتاب، بما فيه من اختلالات، حاملًا اسم روحي الخالدي… الباحث المدقق، والعميق، والمؤرخ التحليلي، والموسوعي، الذي يفيض حماسة، حول ما يكتب، وينخرط في الموضوعات، نقدًا، وإضافة».
يعود استهجان الحروب إلى غياب ذلك كله في كتاب «السيونيزم» خاصة وأن لروحي الخالدي مداخلة في مجلس «المبعوثان» في إسطنبول، حذَّر فيها من خطر الأطماع الصهيونية على فلسطين. في كتاب «السيونيزم» نواجه «كاتبا متسرعا لا يدقق في المعلومة، ويأخذ من الأخرين، من دون النسبة إليهم، ويكتب ببرود.. في موضوع هو أخطر من الموضوعات على وطنه». لذا يُحِّمل الحروب مسؤولية نشر هذا المخطوط، محقا، لوليد الخالدي، الذي منح بمقدمته عن الكتاب «مرجعية علمية».
ركَّز الحروب نقده على تبني الكتاب «الرواية والجغرافية التوراتية لفلسطين» إلى أخطاء تاريخية، من كتاب هرتزل «الدولة اليهودية» وجوهره الدعوة إلى الفكرة الصهيونية، بهدف «نقل الحضارة الأوروبية إلى آسيا المتخلفة». فضلاً عن أن روحي نقل عن نجيب نصّار، بعد أن حذف تعليقات الأخير عليها. ذلك أن نصّار أخذ من «الموسوعة اليهودية» في كتابه عن «الصهيونية» 1908، وإن تولاها بالتعليق، والتحليل، والتفنيد. فضلًا عن أن روحي الخالدي أجرى فيها بعض التحوير، والتحرير اللغوي.
يُصدم من يقرأ الكتاب، حين تقع عيناه على أن الصهيونية ظهرت بتأثير عاملين: أولهما اضطهاد اليهود، وثانيهما انتباه الشعور القومي فيهم. والأنكى أن وليد الخالدي رأى في هذا تفسيرا ذا «وجه من الصواب، والسداد، كما يبدو التقبُّل والاستحسان، لدى روحي لمطابقته لقناعاته».. ما جعل الحروب يقطع ـ والحق معه- بأن روحي الخالدي «يرى الصهيونية بمنظور الصهيونية نفسها». وبعد، فالثقافة حاسمة لا تقبل المجاملة، أو أنصاف الحلول، ويبدو أن وطننا العربي لم يعِ، بعد، أهمية النقد، والنقد الذاتي. ما جعل الحروب يبالغ في الاعتذار، بل يضطر إلى جعل إهداء كتابه «إلى وليد الخالدي، المؤرخ، والمعلم، تقديرا واحتراما»!

 

*مؤرخ فلسطيني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي