محمد الحياني: الغناء من أعماق الروح المغربية

2022-01-10

جاء زمن غنى فيه محمد الحياني بصوت موقر ساطع الجمالمروة صلاح متولي*

 

ما بين إقباله على الحياة ومغادرته لهذه الدنيا، جاء زمن غنى فيه محمد الحياني بصوت موقر ساطع الجمال، ترك آثاره في الأسماع والقلوب، وكان تألقه في أزهى عصور الغناء المغربي الحديث، حيث اجتمع بكبار الشعراء والموسيقيين الذين يشبهون روحه الراقية ويناسبون مستواه الرفيع، والتقى صوته النادر بأرق الكلمات العاطفية الصادقة، وأصفى الألحان وأعذب الأنغام، أما المنافسة فكانت مع أسماء قوية مرهوبة المقام تليق به أيضاً، مثل عبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي، وكل منهما عالم غنائي وموسيقي شاسع مستقل بسماته الفنية الخاصة، وكذلك أصبح محمد الحياني الذي لم يقل قوة، ولم يكن منافساً ضعيفاً عالماً وحده، رغم أنه كان الأصغر سناً والأحدث أسلوباً، وعلى الرغم أيضاً من حياته القصيرة ورحيله المبكر عام 1996، وفي ذخيرته وثروته الفنية ألوان من الغناء الراقي حساً ومعنى، الحديث بحيث يماشي عصره الذي كان يعيش فيه، والخالد الذي يبقى إلى ما بعد عصره بزمان طويل، كفخر يضاف إلى مجد قديم في تاريخ الموسيقى والغناء.
سر أودع في هذا الصوت يصعب اكتشافه، رغم الجمال البادي، وتقنيات الغناء الظاهرة، وألوان التعبير الواضحة، لكن هناك دائماً ذلك الشيء الذي يطبع كل ما سبق بحسن آسر، وهو من الأصوات المحيرة إلى حد ما، فقد يظن البعض إنه مجرد صوت رائع وحسب، لأنه لا يبالغ في عرض جمالياته، وإنما يقدمها بهدوء مطمئن، لكنه عند لحظة معينة يجعل المستمع يتوقف طويلاً أمام ما يصنعه بمنتهى التمكن والاقتدار، فيعيد التفكير فيه ويتأمله من جديد، كما أن طبيعة الصوت نفسه تثير الدهشة والرغبة المستمرة في محاولة معرفة أدق ما يميزه وتحديده، وهو صوت تينور على الأرجح، يغطي الكثير من المقامات والدواوين، ويتحرك في مدى رحب فسيح، وينتقل بين الأجوبة والقرارات باتساق واتزان، ويستطيع أن يطيل المد بسهولة تامة، بنفس مستريح لا ينقطع ولا يجهد، لكن شيئا ما في رنة الصوت وتكوينه، وتردده وذبذباته السريعة أو البطيئة، يمنحه جمالاً لا يمكن تفسيره، وكان الحياني بشدوه النابض يجيد فن الطرب، ويعرف بالفعل كيف يطرب المستمع الذي ينتظر منه هذا ويرجوه، وظل طوال حياته يحفظ حنجرته، تلك الهبة الثمينة، من كل استغلال ويصونها من أي تهريج، وهو عندما يغني يدل غناؤه على طبيعة تكوينه الوجداني، وحساسيته الفنية.

وعلى أوتار صوته تنعكس طريقة الشعور والتفكير، وملامح الذوق المثقف والذكاء الفني والجدية الشديدة، ومن أهم ما يتميز به قوة التعبير الدرامي، وهذا يأتي من قوة الخيال لديه، فالخيال هو ما يمكنه من بلوغ موضع التأثير، بما يخلقه من أثر في النفس وصورة يرسمها في الذهن، ويمكنه أيضاً من بث شكوى الغرام، والتعبير عن قلب العاشق في شتى انفعالاته الغرامية، ومواساة النفس والكثير من المعاني الجديدة المبتكرة، والترجمة عن الأنين بقلب واجف، ولسان يكاد يكون منعقداً من الألم، رغم انطلاقه بالغناء، كما أنه يجيد التلوين الحزين، والتعبير عن الخضوع العاطفي لدى الرجل بلا طراوة أو رخاوة، ويتفوق في التلوين الشاعري في أغانيه الغزلية، ولديه القدرة على التنغيم بطريقة فريدة قد تكون خاصة بالمغرب فقط، فهو روح مغربية خالصة سواء غنى بالفصحى أو بالدارجة.

تنوع الأداء

ترك محمد الحياني مجموعة كبيرة من الأغنيات متسعة الألحان، متنوعة الأداء، ذات أفكار مختلفة، تتباين في درجاتها ما بين الوضوح والسهولة، وتعقيد الإبداع والتأنق، وفي القصائد يقوم بتنسيق الغناء وتجميله بدقة تُمتع السامع برونق الفصحى وتزيدها بهاء وروعة، وفي الغناء بالدارجة يبرز نغم اللهجة المغربية، وإيقاعها المميز الجاذب، وموسيقية اللفظ لديه والروح الغنائية، ويعبر في أكثر هذه الأغنيات عن الحب والألم، والسعادة والنشوة، وحرارة العشق والافتتان، بأسلوب شاعري مرهف، وحس عاطفي دقيق، ينجذب إليه السامع بنفس تهيم مع أنينه الرخيم، وشدوه الحزين الباكي، ودمع لا بد أن يترقرق على وقع غنائه العذب الموجع، ومن أهم القصائد التي غناها، قصيدة بعنوان راحلة، نظمها الشاعر عبد الرفيع جواهري، ولحنها الموسيقار عبد السلام عامر، وتتعدد فيها ألوان التعبير الغنائي بشكل مذهل وصعب الأداء، حيث تبدأ المقدمة بغناء بطيء، ومنذ أول كلمة يصنع الحياني بصوته حالة درامية، تدخل المستمع في أجوائها، بإصغاء منتبه إلى النبرات المشبعة بالحزن، ثم يكاد يضع في كل حرف ينطقه شعوراً ما ويستخدمه للتعبير عن صورة خيالية، فيبدو وكأنه على وشك البكاء عند نطق كلمة «أحن» عندما يقول: «وأنت قريبة أحن إليك» ويظهر الإحساس بالتوق الشديد من خلال الضغط على حرف الميم في كلمة أظمأ، عندما يقول: «وأظمأ للعطر للشمس في شفتيك» كما يبدع في تكرار كلمة «تضيع» بتصاعدات مختلفة، عندما يقول «تضيع حياتي» بالتبادل مع تصعيدات الموسيقى وتعبيرات الموسيقار العبقري عبد السلام عامر، التي لها حديث آخر يطول، وعند هذا المقطع الذي يقول: «وهذا المساء وحمرته من لظى وجنتيك، يحادثني الصمت في مقلتيك» يظهر ارتعاشات خفيفة جداً في الصوت، ويعبر بشكل ما عن الوجوم والتخوف، ثم يكمل الغناء قائلاً: «ونظرتك الحلوة الذابلة بأنك عن حينا راحلة» لكنه لا يغني كلمة «راحلة» للمرة الأولى هكذا بسهولة، وإنما على مراحل كمن لا يستطيع أن ينطقها، ثم يكررها بلفظ طويل كأنها آهة على شكل كلمة، ويتحول هذا الابتعاد بالصوت إلى غناء سريع بعض الشيء عندما يقول: «فهل يرحل الطيب من ورده، وهل يهرب الغصن من ظله» ويكون الصوت في أعلى طبقاته عندما يغني: «ترى ترحلين، وفي لهفاتي وقلبي الحزين، يموت انشراحي، تلوح جراحي، وفي الحي، في كل درب، سأرشف دمعي، سأعصر قلبي» ثم يعود إلى غناء البداية فيردد «وأنت بعيدة» بالطريقة نفسها، التي غنى بها «وأنت قريبة» وبالتنغيم ذاته أيضاً، ثم ينتقل الصوت إلى أداء مغاير تماماً، وارتفاع آخر يوحي بالخطورة والجلال، عندما يقول: «لمن يا إلهة فني، لمن سأغني» وتنتهي الأغنية بترديد السؤال وتكراره.

الأسلوب الغنائي

وفي قصيدة «أرادوني على أني أبوح» لأحمد رامي، التي لحنها أيضاً الموسيقار عبد السلام عامر، يغني الحياني بأسلوب يبدو قديماً، وأكثر كلاسيكية من أسلوب الغناء الحديث المتفرد في راحلة، فيعطي الأغنية الإحساس الطربي الأصيل، بلا مغالاة في إظهار الصنعة، بحيث يبدو الغناء عفوياً صادقاً، ويظهر في هذه الأغنية جانب آخر من جمال صوته الدافئ الشجي، وتحديداً في الجزء الأخير، عندما يقول: «تلاقيني فتخلص بي نجياً، وألمس حبها فيما يلوح، وتزدحم القلوب على هواها، فتنكرني ولي كبد قريح» وفي تحفة موسيقية لعبد السلام عامر، ومن أشعار عبد الرفيع جواهري، يبدع الحياني في غناء «قصة الأشواق» تلك القصيدة التي تتغزل في نهر أبي رقراق، ويؤديها بأسلوب رائع، وبتنغيم مغربي أصيل، وغناء المقدمة فقط يستوجب التوقف عنده طويلاً، حيث يبدأ قائلاً: «قدحي أنا قد جف يا رقراق، فاسكب حُمي السحر في الأحداق، لوّن جناح الشعر في عودي، خذني بموجك موجة تشتاق» ويذهل المستمع بصوته النقي الأصفى، وتذبذب الرنين الرائع، وخفقان الصوت عند نطق بعض الحروف، وتنغيم حروف المد، وتلوين الأداء عند التغني بكلمة رقراق بمد طويل مع تقاسيم الموسيقى، حين يقول: «رقراق يا أنشودة تحكي عمر الجمال وقصة الأشواق» وفي نهاية القصيدة أيضاً يتغنى باسم نهره الجميل بشعور صادق نابع من الأعماق، كمن يستمتع بذكر اسم الحبيب.
وللحياني الكثير من القصائد الأخرى، فكم كان يجيد الغناء باللغة العربية الفصيحة، بسلاسة ممتعة لا تجمد فيها ولا تكلف، رغم أنها لا تخلو من الرصانة، تنساب إلى نفس المستمع بسهولة دون أن ترهقه، ولكل قصيدة من هذه القصائد أسلوبها الغنائي الجميل الفريد، ولحنها الثمين، وكلماتها الغنية بالصور والمعاني، بحيث يمكن تناول كل منها على حدة بالتحليل والعثور على الكثير من الجماليات الفنية، وما أجمل سماعه يغني «ذكرى طفولة» للشاعر عبد الرفيع جواهري، وبألحان حميد بن إبراهيم، تلك القصيدة التي تقول بعض كلماتها: «نسيت هواي وقصة أمسي، نسيت الذي قد توارى وراح، هفوت لذاك الذي سوف يأتي» وتعبر عن محاولة التخلص من الآلام القديمة، ونسيان الماضي وذكريات الحب الذي كان، والتطلع بفرح إلى جميل آخر منتظر، ومن أشعار عبد الرفيع جواهري أيضاً، وألحان عبد الرفيق الشنقيطي، يغني الحياني قصيدة بعنوان «الشفاه الحمر» بإحساس شاعري رائع وأداء درامي بالغ القوة، عن شفاه كان يهواها ويأسره لونها الأحمر، لكنه لن يقترب منها مرة أخرى، لأنها صارت مصدراً لآلامه، ومن أجمل الأجزاء التي يغنيها قوله: «الشفاه الحمر كيف أقسمت بالورد زيفا، والتماع الحب فيها كيف مات اليوم كيف، وليالي العطر ضاعت والهوى أصبح طيفا» وعن معاناته في مقاومة هذا الحب ونسيانه يقول: «منك في قلبي بقايا، في ضلوعي في شقايا، في خشوعي لشفاهك، في جنوني في بكايا، لا دموعي منك أغلى، أنت في أمسي خطايا».

الصوت والشخصية

وعندما يغني محمد الحياني باللهجة المغربية، لا يتعرف المستمع على جانب آخر من صوته وحسب، وإنما يتعرف على جانب آخر من شخصيته أيضاً، هذا الغناء قد يكون الأقرب إلى الجمهور والأكثر بساطة، لكن ذلك لا يعني أنه الأكثر تخففاً من ناحية جودة الغناء وقيمته الفنية، أو أنه الأضعف تعبيراً من ناحية الكلمات وتراكيبها وصورها الفنية وخيالها الدرامي، بل على العكس تماماً قد تكون بعض الأغنيات بالدارجة أشد تأثيراً في النفس ولمساً للجروح، وتعبر بقوة عن الآلام بلسان أصيل، ولهجة تترجم بحق عن الوجدان المغربي، ولا يقتصر ذلك على الأغنيات الحزينة فقط، وإنما على بعض الأغنيات الغزلية أيضاً، التي قد تكون مرحة بعض الشيء، فمن يستمع مثلاً إلى أغنية «يا سيدي أنا حر» قد يظن للوهلة الأولى أنها أغنية خفيفة سهلة الغناء، نظراً لطبيعة كلماتها اللطيفة، لكنها من أصعب الأغنيات وأعقدها، وتمتلئ بالمتعة التي يصنعها الحياني بصوته البديع ومزاجه الغنائي المختلف في هذه الأغنية، وإيقاع اللهجة المغربية وجرس الكلمات، والتنوع في أداء أقسامها، حيث لكل قسم لحنه وميلوديته وأسلوبه السريع أو البطيء، المتقطع أو المتصل، ولافتة جداً دقة الحياني الشديدة في منح الإحساس بالمرح الخفيف أحياناً، وجدية العشق وإعلان الوقوع في الحب والذوبان في الحبيب في حين آخر، وتقرير الاختيار مهما كان صعباً والاستعداد لتحمل العواقب، والتكرار من الأمور الممتعة جداً في هذه الأغنية، وكذلك القفلات الغنائية الخلابة، بالإضافة إلى الكثير من تقنيات الغناء الأخرى الوافرة لدى الحياني، ومن كلماتها: «يا سيدي أنا حر، لله افهمني، أنا شفته وعجبني، دابا تحب وتعذر، وإلا غلبك كيف غلبني، داك الساعة جاوبني» ومن أجمل المقاطع التي يتردد فيها صوته بتكرار ممتع، ذلك المقطع الذي يقول: «خلوني مني ليه، نوهب له روحي، نهدي له حياتي، يا سيدي كنبغيه، بيني وبين قلبي، وأنا حر فذاتي» ويمكن الاستمتاع بالكثير من الأغنيات الأخرى باللهجة المغربية، كأغنية «واش أنت هكذا يا الأيام» و»شكون فكرني» و»ياك الجرح برا» و»مالي ومال التنهيدة» و»أنا شفت عيون» التي تعد من أجمل أغانيه الغزلية الزاخرة أيضاً بجماليات الغناء وتقنيات الأداء والمشاعر المتنوعة، ومن الأغنيات العاطفية الحزينة رائعة الكلمات والألحان والأداء، أغنية «يا دموعي يا أغلى ما عندي» التي يقول مطلعها: «يا دموعي يا أغلى ما عندي، سيلي رخيصة ما كاين باس، حتى ندوب، حتى يتقادى جهدي، ونولي دموع في عيون الناس، وما كاين باس» أما أغنية «لا حول وخلاص» أو «والو باس» فيبدأها الحياني بعد المقدمة الموسيقية بآهات عميقة متكررة، فهو يتألم قبل أن يبوح بسبب الآلام، ثم يواسي قلبه قائلاً: «والو باس يا قلبي، والو باس» بغناء حزين تائه يغلفه القلق القاسي، ثم يتحول الصوت إلى المزيد من القوة تدريجياً عندما يقول: «علي وعليك بالصبر يا قلبي، ولا حول وخلاص» كمحاولة للتغلب على الألم الفاجع، قد تكون هذه الأغنية من أكثر الأغنيات حزناً، لكنها تخلق صلة وجدانية غريبة بين المستمع والمطرب.

*كاتبة مصرية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي