أمريكا تركز على الصراع مع الصين.. لماذا يجب عليها ألا تستهين بروسيا؟

عربي بوست
2021-10-21

الرئيسان الأمريكي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين (أ ف ب)

واشنطن: ثمة سؤال يقفز إلى الأذهان الآن بعد التصعيد الحالي بين أمريكا وبين الصين، وهو: ما هو موقف روسيا من هذا التصعيد، وهل يمكن أن تستفيد موسكو منه أم لا؟

فمنذ وصول إدارة بايدن، مطلع العام الجاري، إلى السلطة، كانت أولويتها الخارجية واضحة ولا لبس فيها، وهي التصدي للصين الصاعدة. وعلى النقيض لم يتم الحديث عن التعامل مع روسيا رغم تعبئة القوات الروسية على حدود أوكرانيا، في أبريل/نيسان.

كانت تلك الأزمة تذكيراً بمدى خطورة تجاهل موسكو، لكن الرئيس بايدن عاد في يوليو/تموز ليُعلن أنّ روسيا هي "مجرد دولة ذات اقتصاد يعتمد على الأسلحة النووية والآبار النفطية فقط لا غير"، بحسب تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.

 الرئيس الأمريكي جو بايدن (أ ف ب)

وليس بايدن أول رئيسٍ أمريكي يُفكر من هذا المنظور، فمنذ نهاية الحرب الباردة شدّد الساسة الأمريكيون باستمرار على أن أيام روسيا كقوةٍ عالمية باتت معدودة.

لكن مشكلة الرأي المُروج لتراجع روسيا هي أنّه رأيٌ مبالغٌ فيه. وغالبية الأدلة التي تُؤكّد هذا الرأي ليست ذات أهميةٍ كبيرة داخل الكرملين بقدر ما تفترضه واشنطن. كما لا يجب أن تتوقع الولايات المتحدة من روسيا التخلّي تلقائياً عن مسار المواجهة بمجرد رحيل الرئيس فلاديمير بوتين عن السلطة.

إذ تتمتّع سياسة بوتين الخارجية بدعمٍ واسع النطاق في أوساط النخبة الحاكمة بالبلاد، كما سيترك إرثاً يضم مجموعةً طويلة من الخلافات التي لم تُحل، وأهمها ضم شبه جزيرة القرم، ما يعني أن أي خلافات مع الولايات المتحدة ستظل قائمة.

افتراضات مغلوطة

يُمكن القول إنّ التوقعات بتراجع روسيا تتضمن بعض الحقائق المهمة. فاقتصاد البلاد في حالة ركود، ولا تمتلك روسيا مصادر قيمة أخرى بخلاف استخراج وتصدير الموارد الطبيعية. كما أنّ المنظومة بأكملها غارقةٌ في الفساد تحت هيمنة الشركات الحكومية التي تفتقر إلى الكفاءة، فضلاً عن العقوبات الدولية التي تَحُدُّ من الوصول إلى رؤوس الأموال والتقنية. ونتيجةً لما سبق، باتت روسيا متخلفةً كثيراً عن الولايات المتحدة والصين في غالبية مقاييس التطور العلمي والتقني، فضلاً عن تراجع إنفاقها العسكري خلال السنوات الأربع الماضية، والتوقعات بانخفاض تعداد سكانها بمقدار 10 ملايين شخص بحلول عام 2050.

ومع هذه النظرة العامة المظلمة، سنجد أنّه من الطبيعي أن يفترض البعض انحسار قدرة روسيا على إثارة الاضطرابات والعداء في الساحة الدولية قريباً، أو أنّ موارد الكرملين اللازمة لتنفيذ سياسته الخارجية العدوانية ستنفد ببساطة، لكن هذه الافتراضات تتجاهل الصورة الكبيرة، بحسب المجلة الأمريكية.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ ف ب)

فبالنظر إلى اقتصاد البلاد، سنجد أنّه يُعتبر أكبر وأكثر مرونة مما قد يعتقده الكثيرون، رغم ركوده. ويميل المحللون للإشارة إلى أنّ إجمالي الناتج المحلي الروسي (1.5 تريليون دولار) يمكن مقارنته بإجمالي الناتج المحلي لإيطاليا أو ولاية تكساس الأمريكية، لكن هذا الرقم تم احتسابه باستخدام أسعار صرف السوق. وبالتالي فإنّ حساب تعادل القدرة الشرائية سيرفع إجمالي الناتج المحلي الروسي إلى 4.1 تريليون دولار، ما يجعل روسيا ثاني أكبر اقتصادٍ في أوروبا والسادس عالمياً.

ويُمكن القول إنّ مؤشرات الاقتصاد الكلي مستقرةٌ بما يكفي من أجل السماح لموسكو بفرض نفوذها مستقبلاً.

وربما أدّت العقوبات الاقتصادية وتراجع أسعار النفط إلى تعثر الاقتصاد بعد ضم شبه جزيرة القرم والغزو الروسي لشرقي أوكرانيا عام 2014. لكن السنوات التالية شهدت تخفيض الحكومة للإنفاق والتكيف مع أسعار النفط المنخفضة، مما خلق فائضاً في الميزانية وزاد حجم صندوق الحرب الخاص بها. وتُشير آخر التقديرات إلى أنّ قيمة صندوق الثروة القومي الروسي بلغت نحو 185 مليار دولار، في حين استقرت احتياطيات النقد الأجنبي في البلاد عند 615 مليار دولار حتى أغسطس/آب من عام 2021 -وهي أرقامٌ لا تُشير إلى بلدٍ في حالة عوز.

فماذا عن اعتماد روسيا على صناعات الاستخراج؟ ما تزال مبيعات النفط والغاز الطبيعي تُمثّل ما يتراوح بين 30% و40% من ميزانية الحكومة، مما يعني أن التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري مستقبلاً سيضر الاقتصاد الروسي كثيراً. لكننا لا نعلم متى قد يحدث ذلك التحول فعلياً. فضلاً عن أنّ روسيا هي مُورد الطاقة الرئيسي لدول الاتحاد الأوروبي، التي زاد اعتمادها على الطاقة الروسية على مدار العقد المنصرم.

وفي الوقت ذاته، ربما تتفوّق الولايات المتحدة على نظيرتها في مجال الابتكار التقني، لكن روسيا ما تزال على قائمة الدول العشر الأكثر إنفاقاً في مجال الأبحاث والتطوير حول العالم. وفي مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، لا يُهم إن كانت الدولة رائدةً أم تابعة. وبالنظر إلى التطبيقات والمنافع التجارية المتعددة لهذه التقنية، فسوف تستفيد موسكو من بعض مزايا بدايتها المتأخرة في هذا المجال تاركةً للولايات المتحدة والصين تحمل تكاليف ومخاطر ريادة هذا التطوير.

عن الجيش والرجال

وبحسب المجلة الأميركية هناك فكرة تقول إنّ التوقعات السكانية لروسيا ستحد بشكلٍ كبير من قدرات البلاد مستقبلاً، لكنها واحدةٌ من أكثر المفاهيم الخاطئة شيوعاً حول روسيا. والسبب أن هذه الحتمية السكانية فشلت تاريخياً في التنبؤ بحظوظ روسيا. فوفقاً لتوقعات الأمم المتحدة، سيتقلص الشعب الروسي بنسبة 7% بحلول عام 2050، بينما تُشير توقعات أكثر تشاؤماً إلى تراجعٍ بنسبة 11%. وحتى في الحالة الثانية، سوف تظل روسيا أكثر دول أوروبا وأوراسيا اكتظاظاً بالسكان، وبفارقٍ كبير.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس السوري بشار الأسد (أ ف ب)

وربما تتخلف عن الدول الغربية المتقدمة من ناحية متوسط العمر المتوقع ومعدلات الوفيات، لكنها ضيّقت تلك الفجوات بدرجةٍ كبيرة منذ التسعينيات. والمؤكد الآن هو أن روسيا لم تعد على حافة الانهيار السكاني.

كما نحتاج إلى إعادة النظر في العلاقة بين التركيبة السكانية وبين نفوذ الدولة. إذ لا يجري تحديد القوى العظمى المعاصرة من خلال تعداد سكانها، بل من خلال جودة سكانها: أي صحة الشعب ومستويات التعليم وإنتاجية العمال وغيرها من المؤشرات. وعلى هذا الصعيد، أحرزت روسيا تحسناً كبيراً منذ التسعينيات بتقليل معدلات الوفيات، وزيادة متوسط العمر، وتحسين معدلات الخصوبة.

كذلك تتألّف التركيبة السكانية الروسية من عدة مؤشرات متداخلة، حيث تُظهِر أنّ التحسينات النوعية تسير جنباً إلى جنب مع التراجع الكمي.

القوة العسكرية

فوق كل شيء، ستظل روسيا قوةً عسكرية لا يُستهان بها. ولطالما كانت القوة العسكرية من نقاط قوة روسيا التي تُعوّض عن اقتصاد البلاد غير المتنوع، وتخلُّفها التقني، وافتقارها إلى الديناميكية السياسية. ولهذا السبب -جزئياً- استطاعت روسيا أن تحافظ على منافستها المطولة مع الدول الأقوى منها اقتصادياً في الماضي.

وما تزال روسيا نظير الولايات المتحدة الرئيسي في تقنيات الأسلحة النووية. وباستثناء الناتو، تمتلك روسيا أقوى جيشٍ تقليدي في أوروبا، حيث أعادت موسكو تشكيله عقب فترةٍ شهدت الكثير من الإصلاحات والاستثمارات العسكرية بعد عام 2008. واليوم، يتمتع الجيش الروسي بأعلى مستويات الجاهزية، والحركية، والقدرات التقنية منذ عقود. كما تمتلك روسيا أيضاً مجموعةً مرنة من القوات الخاصة، والمرتزقة، وعملاء الاستخبارات العسكرية. ناهيك عن مكانة البلاد باعتبارها قوةً رائدة في الفضاء، فضلاً عن قدراتها المكثفة في مجال الحروب السيبرانية.

 

وباحتساب تعادل القدرة الشرائية وخصائص الاكتفاء الذاتي لقطاع الدفاع الروسي؛ قدّر المحللون أنّ روسيا تُنفق ما يتراوح بين 150 و180 مليار دولار سنوياً على الدفاع، وهو تقديرٌ أكبر بكثير من الرقم المُحتسب باستخدام أسعار صرف السوق والذي لا يتجاوز الـ58 مليار دولار. ويجري إنفاق نصف ميزانية الدفاع السنوية الروسية على شراء أسلحة جديدة، وتحديث الأسلحة القديمة، وإجراء الأبحاث على التقنيات العسكرية. وهذه نسبةٌ أكبر بكثير مما تُنفقه غالبية جيوش الغرب في تلك المجالات.

بوتين ليس المشكلة

يربط الكثيرون بين رواية التراجع الروسي وبين الفكرة القائلة إنّ مشكلة الولايات المتحدة الأساسية تكمُن في بوتين -وإن السياسة الخارجية لروسيا ستصير أقل صرامة برحيل بوتين عن المنصب. لكن من المستبعد أن تسير الأمور على هذا المنوال. والسبب الأول هو أن بوتين يستطيع قانونياً البقاء في منصبه حتى عام 2036، بفضل الاستفتاء الذي أجراه العام الماضي.

 

وتُشير الأبحاث حول الزعماء المستبدين المعمرين إلى أنّه بمجرد رحيل بوتين، لن تكون هناك مساحةٌ كبيرة للتحسين السياسي. وفي أغلب الأحيان تصمد الأنظمة التي خلقها أولئك الزعماء المستبدين، أو تظهر بدلاً منها ديكتاتوريةٌ جديدة، كما تقول المجلة الأميركية.

القوة المُثابرة

يجب أن تنظر الولايات المتحدة إلى روسيا باعتبارها قوةً مثابرة -وليست متراجعة-، وقادرة على تهديد مصالح الأمن القومي الأمريكي على مدار الـ10 أو 20 عاماً المقبلة. وحتى لو كانت الصين تُشكل تهديداً أكبر على المدى البعيد، فسوف تظل روسيا تُمثل تحدياً قديماً وقائماً أيضاً.

كما تُشكّل روسيا خطراً أكبر من الصين على سلامة الأراضي الأمريكية. ومن أسباب هذا أن روسيا تظل صاحبة التهديد النووي الأكبر على أمريكا، رغم تضخم ترسانة الصين من الأسلحة النووية الاستراتيجية. وينطبق الأمر نفسه على قدرة روسيا في الوصول إلى الولايات المتحدة باستخدام الصواريخ التقليدية طويلة المدى. كذلك تمتلك روسيا قوات متمركزة في الخارج أكثر من الصين، مع قواعد في القوقاز وآسيا الوسطى وأوروبا والشرق الأوسط. وتتواجد تلك القوات باستمرار على مقربةٍ من قوات الولايات المتحدة وحلف الناتو. وإذا وصل الحديث إلى الحروب غير المباشرة، سنجد أن موسكو لها سجلٌ حافل من التدخل في الانتخابات واختراقها، مما يبرهن على أنها تستطيع استغلال التقنيات الجديدة ضد الولايات المتحدة وحلفائها -وسوف تفعل ذلك. كما تجدر الإشارة إلى أن الكرملين قادرٌ على تهديد المصالح الأمريكية بثمنٍ زهيد. إذ كانت التدخلات العسكرية الروسية في أوكرانيا وسوريا وليبيا محدودةً وزهيدة التكلفة، كما هو الحال مع الهجمات السيبرانية وجهود نشر المعلومات المضللة.

الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ ف ب)

وهذه هي المجالات التي ستشكل فيها روسيا على الأرجح أكبر تهديدٍ مستدام: الحروب السيبرانية والهجوم على الديمقراطيات الليبرالية. وقد لاحظت دولٌ أخرى نجاح روسيا في هذه المجالات وبدأت تحاكيه، كما يتجلّى في حرب المعلومات التي خاضتها الصين بأسلوب الكرملين إبان الجائحة.

أما آخر المخاوف، فتكمن في القضية المشتركة التي باتت تجمع موسكو وبكين بشكلٍ متزايد. حيث عقدت الحكومتان شراكةً استراتيجية فعلية لتبادل الدعم التقني والمادي، وذلك من أجل تعويض الضغوطات الغربية وتركيز الموارد على التنافس ضد الولايات المتحدة وليس ضد بعضهما البعض.

وضع روسيا في حجمها الطبيعي

يجب أن تبتعد واشنطن بفكرها عن الأسطورة القائلة إن روسيا دولةٌ مُحاصرة ترفض الاعتراف بقرب زوالها. ففي الواقع، ليست هناك أدلةٌ تُشير إلى أن قادة روسيا ينظرون إلى بلادهم بهذه الطريقة، كما تقول المجلة الأمريكية.

 بل على العكس تماماً، يفترض قادة روسيا أن بلادهم هي مركز النفوذ في منطقتها، فضلاً عن كونها دولةٌ حازمة على المستوى العالمي. بينما تأتي أحداثٌ مثل الانسحاب الأمريكي الفاشل من أفغانستان لتؤكد على انطباع موسكو بأن الولايات المتحدة هي من تعيش حالةً من التراجع.

وقد اتخذت إدارة بايدن خطوات على الاتجاه الصحيح. ومن بينها تركيز الإدارة على تعزيز مرونة الديمقراطيات العالمية. إذ يُمكن لواشنطن والحلفاء أن يقضوا على أحد أكبر مصادر نفوذ موسكو في الخارج عن طريق الارتقاء بالأمن السيبراني ليصير من أولويات الأمن القومي، وتقوية البنية التحتية الحيوية، وتحسين بيئات نظم المعلومات، والقضاء على الفساد الذي تستغله روسيا لتدمير المؤسسات الديمقراطية.

قوات عسكرية تابعة لروسيا في القامشلي (أ ف ب)

ولكن مستقبلاً، يتعيّن على واشنطن مقاومة التركيز المفرط على الصين وتجاهل قضايا أخرى مهمة، مثل روسيا.

ويجب أن تتبع الإدارة الأمريكية هذا النهج عند وضع ميزانية الدفاع. حيث لم يتراجع التهديد العسكري الروسي مطلقاً، بل تراجع التمويل الذي تُخصصه واشنطن من أجل التصدي له. وسيكون لحلف الناتو دوره المحوري في هذه المساعي. إذ بدأ التحالف مؤخراً في تحديث نهجه، ويجب أن تضمن موسكو استمرار روسيا كأولويةٍ واضحة -وليس الصين. ويجب على الولايات المتحدة أيضاً مواصلة تشجيع حلفائها وشركائها الأوروبيين على تحمل جزءٍ أكبر من أعباء الردع والدفاع في القارة.

وأخيراً، يجب أن تكون واشنطن أكثر جرأة في جهودها المتواصلة للدفاع عن الديمقراطية في مواجهة التخريب الخارجي. كما يجب على الولايات المتحدة، وحلفائها، وشركائها تصعيد ردهم الجماعي على الحروب السيبرانية والتدخل في الانتخابات وغيرها من التصرفات التي تمارسها موسكو لتهديد صحة الأنظمة السياسية والاقتصادية. والتصدي لهذا التهديد أيضاً يتطلب العمل مع شركاء ديمقراطيين بنفس عقليتنا في المنظمات الدولية، مثل الاتحاد الدولي للاتصالات، وذلك لضمان ألا تنفرد بكين وموسكو بسن القوانين والأعراف الرقمية مستقبلاً، كما تقول المجلة الأميركية.

ونحن نفهم بالطبع مدى قوة جذب التهديد الذي تُمثله الصين الصاعدة، لكن الولايات المتحدة قادرةٌ على التعامل مع اثنتين من القوى العظمى في الوقت ذاته: تهديدات الصين المتسارعة، وتهديدات روسيا المُثابرة. وخلال حديثهم حول نهجهم في التعامل مع روسيا، يهوى مسؤولو إدارة بايدن القول إنّ الولايات المتحدة "قادرةٌ على تحقيق المعادلة الصعبة". والآن سيتعيّن عليهم إثبات ذلك.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي