6 أفلام على "نتفليكس": الرداءة "فنٌّ" جديد

2021-08-18

أولغا كوريلنكو: اضطرابات نفسية لا ترجمة سينمائية لها

نديم جرجوره

مُشتركٌ أساسيّ يجمع بين 6 أفلام (مُنتجة كلّها عام 2021، باستثناء واحدٍ فقط مُنتج عام 2020، بعنوان "الثاني")، تعرضها المنصّة الأميركية "نتفليكس" منذ أسابيع عدّة: الرداءة، بأنماطٍ وتعريفاتٍ مختلفة، وفي المستويات كلّها للاشتغال الفني. هناك مشتركات أخرى أيضاً: انتقامٌ فرديّ من أناسٍ يُسيئون إلى المُنتقِم، أو إلى أحد أفراد عائلته (ابن، شقيق، شقيقة).

مطاردات، يتخلّلها تبادل إطلاق رصاص ومعارك بالأيدي، يندرج معظمها في الفنون القتالية والقتال بالسيوف والخناجر.

بطولات فردية ضد جماعات مسلّحة، أفرادها مدرّبون جيداً، فغالبيتهم تنتمي إلى وحدات عسكرية خاصّة، أو لديها تاريخٌ حافلٌ من الإجرام، الذي يُحتّم عليها تدريبات صارمة وقاسية، تماماً كالفرد الساعي إلى الانتقام.

لقطات المعارك بالأيدي أفضل من تلك المعقودة على تبادل إطلاق الرصاص، ففي هذه الأخيرة أخطاء وركاكة.

مُشاهدة الرداءة

أما المُشاهدة، فاختبارٌ مفتوح على معرفة حدود احتمال الرداءة (والحدود ماثلةٌ في تحويل الملل إلى ضحكٍ على تفاهةٍ غير مُحتملة)، وعلى محاولة تبيان مغزى إنتاج رداءة كهذه (التجاري الاستهلاكي الهادف إلى تسليةٍ غير ناضجةٍ)، تتجاوز قواعد التشويق والفنون القتالية ومفردات المطاردة والمعارك، من دون بلوغ مرتبة مختلفة، إذْ

يسهل سقوط هذا كلّه في سذاجةٍ وحماقةٍ سينمائيتين، تُنتجهما منصّة، تُتقن الجمع بين روائع وتفاهات، إنْ في إنتاج مسلسلات بمواسم وحلقات عدّة؛ أو بوضع ملايين الدولارات الأميركية بين أيدي مخرجين مرموقين، يُنجزون روائع تتباهى بها المنصّة في مهرجانات وعروضٍ؛ أو بتحقيق سلاسل وثائقية، بعضها يُعتَبر الأهمّ والأمتن والأقدر على تحقيق معادلة الشكل والمضمون، في اشتغالٍ معمّق على مسألة أو شخصية أو حالةٍ.

سلاسل كهذه تُظهِر إمكانياتٍ كبيرة للمنصّة، تخوّلها الحصول على أرشيفٍ (مكتوب ومُسجّل ومُصوَّر) غير مكشوف سابقاً، في أحيانٍ عدّة.

المُشاهدة معقودة على رغبةٍ في اكتشاف جانبٍ من إنتاج "نتفليكس" أفلاماً روائية طويلة، أميركية وأوروبية (بلجيكا، هولندا، إسبانيا، بولندا، فرنسا)، تنتقي منها قصصاً مُكرّرة، في أطرٍ معروفة، ينقصها تجديداً في الصُوَر والتقنيات والأداء، أو على الأقل التزام حدّ أدنى من حِرفيةٍ، تُنقذ المنتوج من أخطاء وركاكة، بدل الإمعان في تسفيه الأخطاء والركاكة.

ورغم أنّ بعضها "مُحمّلٌ" بقضايا مرتبطة بهمومٍ جماعية (حرية اقتناء الأسلحة الفردية في الولايات المتحدّة الأميركية، مثلاً)، تميل أفلامٌ عدّة إلى مسألةٍ واحدة: هناك ظلمٌ يُصيب فرداً، فيُغرقه في دهاليز الانتقام، المليئة بالدم والعنف، من دون أدنى ركيزة درامية مقبولة في تصوير تلك الرحلة، المُسرفة بدمائها الغزيرة، وبعنفها فائق اللامعقولية.

في مقابل مسألة حرية اقتناء الأسلحة الفردية، كما في "الثاني (The 2nd)" للأميركي براين سْكيبا، هناك اضطراب نفسي، في "الحارس (Sentinelle) للفرنسي جوليان لوكلرك، يُصيب جنديةً فرنسية مختصّة بالترجمة، في خدمتها العسكرية في منطقة شرق أوسطية، مليئة بإرهابيين انتحاريين (يُشير التعريف الرسمي بالفيلم إلى أنّ تلك المنطقة سورية).

لكنّ الاضطراب النفسيّ يُترجَم بصرياً، سلوكاً وتواصلاً وعيشاً يومياً في "نيس"، بأسوأ ما يُمكن من صُور وتفاصيل وادّعاء تمثيلي. مقتل الشقيق الأكبر، في "بارتْكوفياك" البولندي لدانيال ماركوفيتش، يُحرِّض شقيقه على كشف المخبّأ في مقتله، من دون أدنى اشتغالٍ درامي على النفس والعلاقات وسلوك الأفراد، إذْ يكتفي صانعوه بمَشاهِد مليئة بعنفٍ، يبقى أخفّ حدّة من تلك المُقدّمة في الفيلم الإسبانيّ Xtreme، لدانيال بنْمايرور.

المافيا وتجارة المخدّرات ركيزة "فيرّي" (إنتاج بلجيكي هولندي) لسيسيليا فرهايدن، الذي يُعتبر تقديماً لسلسلة مؤلّفة من موسمين اثنين فقط (لكلّ موسم 10 حلقات، مدّة كلّ واحدة منها 50 دقيقة) من Undercover، المنتج عام 2019 ("نتفليكس" أيضاً).

بينما "القرصان الأخير" للفرنسي ديفيد شارون، الذي يفرح جان ـ كلود فاندام يالتمثيل فيه وفقاً لأكثر من حوارٍ صحافي معه، يبقى مجرّد مطاردات مفرّغة من مفردات التشويق والأكشن، وتداخل الاستخبارات، المتورّطة سابقاً في حروب ودول، بسردٍ مفتعل، يتناول ـ بسخرية ساذجة ومُسطّحة ـ مسائل حسّاسة في العلاقات والعائلة والصداقات، ومواجهة الأشرار.

للعائلة حضورٌ أيضاً

4 أفلام ترتكز، في تشكيلاتها الدرامية وحكاياتها العادية، على ثنائية أب ـ ابن: في "القرصان الأخير"، يظهر أسطورة العمل الأمني ـ الاستخباراتي، ريشار برومير (فاندام)، من غيابٍ مديدٍ، لإنقاذ ابنه، آرشيبالد المحمود (سمير دكازا)، الذي يتخلّى عنه سابقاً ضمن تسوية داخلية. في Xtreme، يقتل لوسيرو (أوسكار خايْنادا)، الزعيمُ الجديد لعصابةٍ تتاجر بالمخدرات، ابنَ المرافق الأول لوالده، بعد تصفية حسابات داخلية أيضاً، فيبدأ الوالد مكسيمو (تيو غارسيا) رحلة انتقام دموي وعنفيّ.

"فيرّي" يروي حكاية من سيُصبح زعيم عصابة مخدّرات لاحقاً، فيري بومان (فرانك لامِّرس)، في رحلة انتقام لمقتل ابن زعيمه المافياوي. فيما "الثاني" يروي فصلاً من بطولات جندي أميركي في القوات الخاصة، يجهد لإنقاذ ابنه الوحيد (كلّ ابن من هؤلاء وحيدُ والده) من عملية خطف ابنة قاضٍ (وحيدة والدها أيضاً)، يشتغل على إلغاء التعديل الأميركي الثاني، المتعلّق بحقّ امتلاك أسلحة فردية.

الفيلمان الآخران يرتكزان على انتقام شقيق لمقتل شقيقه (بارتْكوفياك)، وانتقام شقيقة لاغتصاب شقيقتها من مافياوي محمّي من سلطات وعلاقات متينة (الحارس).

العائلة أساس كتابةٍ، غير متمكّنة من ترجمة حبكتها وشكلها إلى متتاليات بصرية متماسكة ومُقنعة وحيوية. الانتقام فعلٌ فرديّ، تعتاده السينما في دول ومجتمعات كثيرة. إنّه جزءٌ من طبيعة فردية، أو شيء حاضر في وجدان وتفكير.

كلّ فيلمٍ من هذه الأفلام يقول إنّ الانتقام أساسي في حياة الناس، وإنّ الاعتماد على الذات ضروري في تحقيق "عدالة الانتقام"، وإنّ المرجعية الرسمية فاشلةٌ أو مُغيَّبةٌ أو عاجزة عن تحقيق عدالة قضاء وقانون.

العنف ركيزة، كإراقة دماء كثيرة، في إطلاق الرصاص، أو استخدام أدوات الفنون القتالية، أو التشابك الجسدي بين متخاصِمَين، مع سيوف وخناجر.

الإعدام يُلبّي حاجة أحدهم إلى الانتقام. مقتل ابن زعيم عصابة هولندية يدفع إلى تصفية الفاعلين، رغم أنّ قتله غير مُقرَّر، فالهجوم على مركز العصابة مُدبَّر من ابن الزعيم نفسه، المحتاج إلى مال لنجاة مرتقبة من ورطةٍ غير متوقّعة (فيرّي). انقلاب ابن زعيم عصابة إسبانية على والده يؤدّي، من بين أمور أخرى، إلى تنقية العائلة

من شوائب يراها المنقلب حواجز تحول دون تحقيق طموحاته (Xtreme). من هذه الحواجز: الخلاص من أقرب المقرّبين من الوالد المغدور، فإذا بمن يُكلّف بالمهمة يقتل ابنه أيضاً (لن يُقتل الأب، فسكرتيرة زعيم العصابة المغدور تُنقذه في اللحظة الأخيرة، كي تبدأ رحلة الانتقام).

تومِك بارتْكوفياك (يوزف بافلوفسكي) غير مكتفٍ بانتقام فرديّ. مقتل شقيقه مدخلٌ إلى مؤامرة تُحاك بهدوء لإخلاء قسريّ لمنطقة، يُراد تحويلها إلى مجمّع تجاري ـ سكنيّ ضخم. في المنطقة نفسها، هناك ملهى ليليّ، يبقى عصيّاً على رجال أعمال يبغون أرباحاً خيالية من المجمّع. مقتل الشقيق، صاحب الملهى، يُحرِّض تومِك على كشف المخطّط. عضلاته المفتولة، إلى تقنياته في القتال بالأيدي (لا بُدّ من بعض رصاص ومطاردات)، أدوات أساسية في انتقامه.

هذا تفعله كلارا (أولغا كوريلنكو) أيضاً: تدريبات عسكرية صارمة تتفوّق فيها على الآخرين، واتقان لغات عدّة، وخوض مواجهات حادّة مع إرهابين انتحاريين، تجارب تبدو كأنّها تهيّئ لاختبارٍ آخر، ينطلق من صدمات وارتباكات في النفس والروح، بينما السياق يكتفي بانتقام فرديّ من مغتصب شقيقتها (الحارس).

أوصاف تتناقض ووقائع

مسألة حقّ اقتناء أسلحة فردية غطاء سينمائي باهت لفيلمٍ يُفترض به أنْ ينتمي إلى الأكشن. براين سْكيبا غير راغبٍ في معالجة درامية، مُغلّفة بتشويق وعنف ومطاردات، للمسألة، رغم إقحام فقرةٍ صغيرة قبيل النهاية (اللقطة الأخيرة تبدو إعلاناً عن جزءٍ ثانٍ)، تتمثّل في كلامٍ يوجّهه الأب، الرائد فِك ديفيس (راين فيليب)، لابنه

شون (جاك غريفّو)، عن ساعة يدٍ يُقدّمها بل كلينتون له أثناء منحه ورفاقه ميداليات تكريمية. كلامٌ ساذج، يُراد منه الإشارة إلى ميل ديمقراطي لصانعي الفيلم، إزاء جمهوريين ورجال استخبارات تتناقض مواقفهم وأعمالهم مع مواقف الديمقراطيين وأعمالهم.

أما الإشارة إلى منطقة مليئة بإرهابيين انتحاريين، في "الحارس"، فمتساوية بسذاجتها مع التعريف بـ"عملية الحارس"، الذي (التعريف) يُستشفّ منه انغماساً في أعمالٍ ومواقف متلائمة مع مهمّة العملية وآفاقها، في بلدٍ (فرنسا) يعاني أفعالاً إرهابية مختلفة، في الأعوام الأخيرة. يقول التفسير إنّ "عملية الحارس"، الخاصة بالجيش الفرنسي، معمولٌ بها منذ 12 يناير/ كانون الثاني 2015.

"الحارس" جنديّ مسؤول عن حماية أمكنة، ومواجهة تهديدات إرهابية. عليه أنْ يتوقّع حدوث أي هجومٍ، وافتراض ما سيحدث، وتكييف سلوكه مع هذا الافتراض. يتدخّل لحماية الناس والأرض. هناك 10 آلاف جندي يخدمون العملية كلّ يوم.

كلامٌ كبير. مهمات صعبة وتحدّيات تُعرِّض الجنود والضباط لمخاطر، معروفة في فرنسا وأوروبا في الأعوام الأخيرة. وصفٌ يوهم بسياقٍ، ينكشف سريعاً عمّا يُناقضه، أو يبتعد عنه كلّياً. لا علاقة لمهمّة "الحارس" بما تفعله كلارا، إلاّ إذا تمّ اعتبار المهمّة انعكاساً لما تعانيه الجندية من ضغوطٍ، جرّاء اغتصاب الشقيقة. المبادرة الفردية طاغية، وكلّ قانون غير صالحٍ لها في مهمّةٍ، يفرضها الفرد على نفسه لإنقاذ نفسه وأحبّته من مخاطر، يُفترض بها أنْ تهدف إلى تحطيم الجماعة.

"نتفليكس" مهمومة بجانبٍ استهلاكي مسطّح، فحاجتها إلى مزيدٍ من المشتركين ملحّة، خصوصاً أنّ الأرقام تُشير، وفقاً لمعلومات صحافية متخصّصة، إلى فقدان المنصّة 430 ألف مُشترك أميركي وكندي، في الثلث الثاني من عام 2021، رغم أنّ عدد المشتركين فيها، إلى الآن، يتجاوز 200 مليون في العالم. المنافسة شديدة. منصّات أخرى تستقطب أعداداً كبيرة من الراغبين في تجديدٍ واختلافٍ وتسلية.

تحاول "نتفليكس" حماية حضورها، ولعلّ أفلاماً كتلك، رغم رداءتها، تساهم في تسلية مشاهدين يرغبون في خروجٍ، ولو مؤقّت، من أزمات العالم وانهياراته وتحوّلاته، من دون تفكير أو تأثّر.

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي