الرئاسة الأميركية والرئيس النموذجي
2024-01-30
إميل أمين
إميل أمين

تبدو معركةُ الرئاسة الأميركيّة في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم، معركةً غير اعتيادية، لا سيما في ظلّ حالة الاستقطاب السياسي، والذي لن ينفكّ يضحى صراعًا متجاوزًا للمنافسة التقليديّة، وقد يأخذ الجمهوريّةَ الأميركيّة إلى مسارات مخيفة من العنف، لا سيّما في ظلّ التقدّم الواضح للمرشّح الجمهوريّ، الرئيس السابق دونالد ترامب، والذي يبدو وكأنّه بات بشكل نهائيّ مرشَّحَ الجمهوريّين، ووسط ضبابيّة من موقف بايدن، وهل سيكمل السباق الانتخابيّ أم أنّ هناك أحاديث ماورائيّة تتكلّم عن استبداله بمرشّح آخر، ربما يكون "ميشال أوباما"، زوجة الرئيس الأسبق باراك أوباما.

مهما يكنْ من أمر السباق هذه المرّة، ربما يعِنّ لنا أن نتساءل عمّا يمثّله مقام الرئاسة الأميركيّة، وهل من بعض رؤساء أميركيّين نالوا قدرًا من الرضا والاستحسان، جعل منهم أقرب ما يكونون إلى الرئيس النموذجي، ولو بصورة نسبيّة، حيث لا كمال في أي مجال على أرضنا الفانية؟

يعتبر أديب أميركا الكبير والمبدع "جون ستاينبيك" 1902-1968 "أن منصب رئاسة الولايات المتحدة هو أكثر المناصب نفوذًا على مستوى العالم. ولكن ما لم يلتفت إليه أحد، أو لم يدركه بشكل عامّ، هو مدى صعوبة الإمساك بزمام سلطات هذا المنصب والتحكّم فيها وتفعيلها على أرض الواقع".

من هنا تتبدى الصعوبات التي تدور من حول صاحب هذا المنصب، والشروط الواجب توافرها فيه، كي يملأ المكان والمكانة التي أبدع الآباء المؤسّسون في رسمها ضمانًا لديمقراطيّة تمتدّ، ولطغيان يتوارى.

كانت الرئاسة نفسها في بدايات نشوء وارتقاء الولايات المتحدة، من بين أكثر الإبداعات تجريبيّةً؛ فقد ساد بصفة عامّة، إدراك أنّ هناك حاجة إلى قيادة أكثر فاعليّةً، لكن هل يمكن تحقيق هذا الهدف مع التمَسُّك بمراقبة تمنع الطغيان؟

كان الهدف النهائيّ لذلك، هو الحكم، وليس مجرّد السيطرة، وتمثَّلَ الحلّ في الفصل بين السلطات، فيستطيع الرؤساء العيش والعمل داخل هيكل دستوري يفصل السلطات من أجل دعم الوحدة والحفاظ عليها.

المنظور السابق الذي قام بشرحه البروفيسور تشارلز جونز، في مقدمته القصيرة عن "الرئاسة الأميركيّة"، يمكن استحضاره هذه الأيّام، وبخاصة في ظلّ الأزمة المحتدَمة بين مقام الرئاسة في البيت الأبيض، وبين حاكم ولاية تكساس، والنزاع الذي يمكن أن يتطوّر إلى مواجهات بين السلطات الفيدراليّة التي يترأسها جو بايدن، والحرس الوطنيّ في ولاية تكساس الذي يأتمر بأمر جريج أبوت.

ما يزيد أزمة مقام الرئاسة اليوم، هو توجُّه نحو 25 حاكم ولاية أميركية للانضمام لأبوت في تمرّده على بايدن، ما يعني أنّ هناك إرهاصات للإخلال بالتراتبيّة الرئاسيّة التقليديّة، والتي عمل الآباء المؤسّسون على أن تكون مستقلّة عن السلطة التشريعيّة والسلطة القضائيّة.

هنا يذهب المغرقون في التشاؤم إلى القول بالحرب الأهليّة، فيما يناقضهم فريقٌ مقابل، يقطع بأنّ هذا أمر لن يحدث، يبشر به أعداء النظام الأميركيّ، لا سيّما في الدول التوتاليتاريّة، التي فرح مثقّفوها بحدوث هذا الانقسام داخل الولايات المتّحدة، فيما تمادى نفرٌ من الشامتين معتبرين الأمرَ أنّه بمثابة حرب أهليّة أميركيّة جديدة.

هنا يطفو التساؤل: هل شخص الرئيس الأميركي يمثل فارقا جوهريًّا في إدارة شؤون البلاد، لا سيّما في ظلّ الأوقات الحرجة، ويلجأ إليه كمسوؤل وراعٍ، قبل أن يكون كعدوّ وخصم.

يلفت الباحثُ وعالم السياسة الأميركي البارز "توماس كرونين" في مؤلَّفه "الرئاسة تشريف أم تكليف؟ إلى مجموعة من السمات الشخصية الواجب توافرها في أيّ مرشَّح يتطلّع لأن يسكن البيت الأبيض، ويقوم بواجبات الرئيس الأميركي، وفي مقدّمها: "الاستقامة وسمو الأخلاق، والشجاعة، والطموح والزعامة، والتفاؤل، والقوة والحزم، والتعلم والإنصات، والثقة بالنفس والتواضع، وأخيرًا التفاهم وحب الناس".

على أن السمات الشخصيّة بحسب كرونين، لا تكفي، إذ لا بدّ لها من أن تتوافر في شخصيّة الرئيس ملامح ومعالم للمهارات السياسيّة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: "الحنكة السياسية، التفكير الاستراتيجيّ، القدرة على رفع المعنويات وتوحيد الصفوف، القدرة على الإقناع، البراعة في التواصل مع الجماهير، الكفاءة التنفيذيّة".

في هذا الإطار يصبح من الطبيعي جدًّا أن يتساءل المواطن الأميركي عن المسافة التي تباعد بين هذه الخصائص والسمات، عطفًا على المهارات المطلوبة، وبين المرشَّحين المطروحين الآن ساحة السباق، وبخاصّة القدرة على توحيد الصفوف، في هذه الأوقات التي يبدو فيها "فخ ثيوسيديدس"، فاغرًا فاه من جانب منافسي أميركا القطبِيِّين، بدءًا من الصين منفردة، ثم الصين في تحالفها ولو البراغماتيّ مع روسيا الاتحاديّة، ما يعني أنه ليس الوقت الملائم أبدًا للخلافات السياسيّة المؤدلجة، ناهيك عن الصراعات التي يمكن أن تشعل شرارة مواجهات مسلَّحة، تنبَّأ بها بالفعل أميركيّون ثقات من نوعيّة زيجينو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في زمن الرئيس الديمقراطيّ الطيب جيمي كارتر.

الحديث عن كارتر وكيف كان رجلاً نقيَّ الضمير، كما بدا للأميركيّين، يدفعنا للبحث عن الرئيس الأقرب ما يكون للمثالي، وهناك في التاريخ الأميركيّ بعضٌ من هؤلاء، سواء التاريخ البعيد أو القريب.. ماذا عن هذا؟

المؤكَّد أنه لا تزال قصة حياة الرئيس الثالث للولايات المتحدة الاميركيّة، توماس جيفرسون (1743-1826)، مبهرة جزئيًّا لأنه استطاع أن يجد وسائل للاستمرار، وفي أحيان كثيرة استطاع أن ينتصر في مواجهة التحَزُّب والتطَرُّف وعدم الاستقرار الاقتصادي والتهديدات الخارجيّة.

من هنا يدرك الأميركيّون اليوم أن الزعامة السياسية لتوماس جيفرسون تُقَدِّر أن تقدّم مثالاً للرئيس الذي يستطيع العمل على مستويَيْن: مستوى يزرع الأمل في مستقبل مشرق بينما يحافظ على مستوى آخر على المرونة والمهارة السياسيّة من أجل رأب الفجوة ما بين المثل الأعلى والواقع بقدر ما أمكن.

تعتبر الإنتلجنسيا الأميركية أن توماس جيفرسون، هو الشخص الذي صاغ وصمَّمَ أميركا، بل إنّه الرئيس الذي شكَّلتْ شخصيّته الرؤية المتعلّقة بما يمكن أن تكون عليه البلاد.

هل من مثال آخر لرئيس قريب، بل بلغ مرحلة لاحقة من العظمة؟

يحاجج البعض بأنّ كينيدي على المستوى الشخصيّ كانت له نزواته المعروفة، لكن ذلك لم ينتقص أبدًا من قدر سموِّه كرئيس، وإن لم يكمل ولاية أولى، ويكفي أنّه الرجل الذي أنقذ مع أخيه روبرت المدّعي العامّ، العالم من حرب نوويّة لا تُبقِي ولا تذر.

والثابت أنّه مع أن كينيدي كان القائد الأعلى للقوّة العسكريّة الأولى في العالم، إلا أنه خلال فترة رئاسته لم يرسل فرقة عسكريّة واحدة خارج الحدود ولم يُلْقِ قذيفة على أرض أجنبيّة، بل استغلّ فترة رئاسته في تحطيم الحواجز التي تحول دون المساواة الدينيّة والعرقية وتحقيق التوازن في البلاد.

استطاع كينيدي أن يبسُطَ يده لضحايا الفقر والقمع، وحثَّ الأميركيّين على خدمة مجتمعهم وحبّ جيرانهم بغضّ النظر عن لون بشرتهم.

شنَّ كينيدي في واقع الحال حربًا، لكنّها لم تكنْ على البشر أو الدول، بل ضدّ الفقر والأميّة والضعف الفكريّ المستشري في البلاد. وهو الذي أعاد الشباب إلى أحضان السياسة، وأرسل متطوّعي فيالق السلام إلى كل أنحاء العالم لكي يدعموا الفقراء والمعوزين.

هل على الساحة الأميركيّة اليوم مَن تتوافر فيه السمات الشخصيّة والمهارات الأساسيّة لقيادة أميركا، قبل القارعة التي قد تبدو قريبة جدًّا في تقدير كثير من المراقبين الثقات للمشهد الأميركيّ؟

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-العربية نت-



مقالات أخرى للكاتب

  • الشرق الأوسط والانفلاش النووي
  • هل حقًّا أميركا قائدة العالم؟
  • الذكاء الاصطناعي.. آلة الزيف الانتخابي






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي