المعركة ضد الاستيطان أعمق من تهديدات الحروب الإقليمية
2023-09-04
طوني فرنسيس
طوني فرنسيس

لا تخفي الأصوات المرتفعة والتهديدات المتبادلة بالحرب، تلك الآتية من طهران (وأنصارها) أو من تل أبيب، واقع أن المعركة أو الحرب الفعلية هي التي تدور على الأرض الفلسطينية بين السكان الفلسطينيين والمستوطنين اليهود الذين يتمتعون اليوم وأكثر من أي وقت مضى بدعم حكومة تمثلهم خير تمثيل بوجود وزراء فيها وعلى رأسها يجعلون من الاستيطان وضم الأراضي نهجاً ثابتاً ونقيضاً للسلام الذي تدعو إليه الأمم المتحدة وقراراتها، وجامعة الدول العربية ومبادرتها ونقيضاً أيضاً لاتفاق أوسلو وملحقاته بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

لغة التهديد بالحرب تصاعدت أخيراً، وتبادل "حزب الله" وإسرائيل الوعيد والوعود بالعودة للعصر الحجري، وهدد رئيس الحكومة الإسرائيلية باغتيال مسؤولين فلسطينيين ليرد عليه الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله بالتحذير من أي اغتيال على الأرض اللبنانية، وحدد المرشد الإيراني علي خامنئي تواريخ جديدة لإزالة إسرائيل من الوجود.

وتوالت الأخبار عن اجتماعات متخصصة للحكومة الإسرائيلية للبحث في احتمال نشوب مواجهات شاملة تبدأ بصدام مع "حزب الله"، لكن في النتيجة بدا جميع الأطراف المنتظمين في تبادل خطابات التهديد متحفظين عن المغامرة، وظهر وكأن المواقف النارية تنطلق من حساباتهم الخاصة.

فبحسب تقديرات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية فإن "تصريحات قادة في لبنان وغزة وإيران تخدم مصالح داخلية ولا تتلاءم بشكل دقيق مع الوضع الميداني". هذا التقييم الإسرائيلي يبدو منطبقاً على تل أبيب نفسها، فالاستنفار تحت شعار مواجهة العدو الخارجي يخدم من دون شك أوضاع الائتلاف الحكومي الذي يعاني اهتزازات بلغت حد التأثير المباشر في الأوضاع الإسرائيلية في مجملها باعتراف مختلف المسؤولين الإسرائيليين، مثلما يخدم حسابات أطراف "محور المقاومة" الذي يعاني كل منهم مشكلات داخلية تبدأ في إيران ولا تنتهي في لبنان المأزوم.

في هذه الأجواء تدور الحرب بعيداً من حدود لبنان ومن حدود قطاع غزة الذي انسحب منه الإسرائيليون قبل 18 عاماً. إنها قائمة يومياً في الضفة الغربية وجوهرها مواجهة الفلسطينيين للغزوة الاستيطانية المدعومة بحماية قوات الاحتلال، وفي هذه المواجهة يدافع الفلسطينيون عن أرضهم وقراهم وهم يعرفون جيداً أن الاستيطان الذي كان المدماك الأول في قيام دولة إسرائيل هو الآن سبيل المستوطنين لمنع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة.

أقر اتفاق أوسلو في 1993 بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، ثم ملاحقه في 1995، مرحلة انتقالية من خمس سنوات تقسم الضفة بموجبها إلى ثلاث مناطق:

المنطقة (أ) تخضع للسيطرة الفلسطينية وهي تضم مدناً وبلدات كبرى منها رام الله والخليل ونابلس وطولكرم وقلقيلية.

المنطقة (ب) وتخضع لسيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية إسرائيلية وتضم قرى ومدناً ملاصقة للمنطقة الأولى.

المنطقة (ج) 60 في المئة من أراضي الضفة تقع تحت الاحتلال بالكامل وتشمل المستوطنات والطرق والمناطق الاستراتيجية المجاورة لحدود إسرائيل. وتحتوي هذه المنطقة على ثروات طبيعية و63 في المئة من الأراضي الزراعية الخصبة بالضفة وعلى امتداد معظم غور الأردن.

وبحسب الاتفاقات كان يجب نقل المناطق (ب) و(ج) تدريجاً إلى سيطرة السلطة الفلسطينية، لكن حصل العكس تماماً، إذ شرعت إسرائيل في توسيع الاستيطان داخل المنطقة الأخيرة التي تضم الآن غالبية مستوطنات الضفة، وتحول الاستيطان مع الحكومة الحالية إلى نهج رسمي معلن لا يقف في وجهه شيء.

منذ أن تسلم بتسلئيل سموتريتش مسؤولياته كوزير للإدارة المدنية في وزارة الدفاع أعلن أن المهمة الآن هي "النقش في وعي العرب بأنه لا يوجد إمكان لإقامة دولة عربية في أرض إسرائيل. ويجب وضع خيارين أمام الفلسطينيين، إما الهجرة إلى الدول العربية أو الاستسلام لحكم إسرائيل في كانتونات حكم ذاتي كمقيمين".

ومنذ اتفاق أوسلو الذي نشرت الحكومة الإسرائيلية أخيراً محضر إقراره قبل 30 عاماً، كانت الحكومات المتعاقبة تعتبر المنطقة (ج) فضاء حيوياً للاستيطان بمعزل عن سير مفاوضات السلام وسبلها المتعرجة، وكان الفلسطينيون يعتبرونها أساساً في إقامة دولة متصلة قابلة للحياة.

قضت إسرائيل على مشروع الدولة الفلسطينية في وقت مبكر وكان حصار ياسر عرفات في رام الله ثم موته وبعد ذلك الانسحاب من غزة واستيلاء حركة "حماس" على القطاع بداية للانقسام الفلسطيني المديد الذي جاء بعد حصار السلطة وإضعافها ليجعل الدفاع عن النفس والأرض والمنزل والمقدسات مهمةً فلسطينية أولى عجزت عنها السلطة فتولاها أصحاب البلاد مباشرة.

وطوال الأعوام الماضية تصاعدت عمليات سلب الأراضي والممتلكات يرافقها تضييق على السكان لإجبارهم على الرحيل، وتحولت هذه العمليات أخيراً إلى عنف منظم يرتكبه المستوطنون.

نقل تقرير لـ"بي بي سي" عن الأمم المتحدة تسجيلها 100 اعتداء شهرياً ينفذها مستوطنون ضد السكان الفلسطينيين وأن 200 فلسطيني طردوا من أرضهم منذ بداية 2022، كما أن "المستوطنين أصبحوا أكثر جرأة مع وجود الحكومة الحالية وارتفعت هجماتهم على الفلسطينيين إلى مستوى قياسي مع ازدياد التوتر في الضفة والغارات الإسرائيلية شبه اليومية وازدياد الهجمات الفلسطينية".

لقد أشعل الاستيطان في القدس والمنطقة (ج) الضفة بأكملها ولا يكفي أن تتهم إسرائيل إيران بتشجيع هجمات الفلسطينيين لتغطية النهج الإسرائيلي الذي يشعل الحرائق، إذ كان العام الحالي الأكثر دموية في الأرض المحتلة ولاحظ جهاز الأمن الإسرائيلي مقتل 180 فلسطينياً مقابل 32 إسرائيلياً وزيادة بنسبة 15 في المئة خلال الهجمات الفلسطينية على الإسرائيليين في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام مقارنة بالعام الماضي.

الأمم المتحدة قالت إن المستوطنين شنوا هذا العام 700 هجوم على المواطنين الفلسطينيين وهو الرقم الأعلى منذ عام 2006، وفي خلاصة سياسية قال رئيس مكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في الضفة أندريا دي دومينيكو، "نشهد مزيداً من الضغوط على المجتمعات الفلسطينية لمغادرة أراضيها".

في الضفة الغربية تدور الحرب الفعلية، حرب الأرض والوجود، وخطة المسؤولين الاسرائيليين رفع عدد المستوطنين في المنطقة (ج) من نصف مليون إلى مليون مستوطن مقابل نحو 300 ألف فلسطيني، ولدى تحقيق هذا الهدف لن يكون هناك فلسطينيون في أرضهم ولا دولة فلسطينية تقام عليها .

إن ما ينهال اليوم من أحاديث عن حروب إقليمية يبقى حتى إشعار آخر جزءاً من أساليب العمل التي اعتادتها المنطقة في حقبتها الإسرائيلية وأزمنتها القومية والتقدمية والإسلاموية، ونتيجة الصراع يقررها المقيمون في الأرض الفلسطينية بصمودهم ودفاعهم عن مصيرهم ومستقبلهم.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • هل تريد أميركا فعليا دولة فلسطينية؟
  • المنطقة في عام الحرب
  • قمة استثنائية في ظروف استثنائية  






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي