لماذا جرائم حروبهم ضدنا غائبة والجرائم ضدهم حاضرة؟
2022-04-18
 مثنى عبد الله
مثنى عبد الله

بنجاح كبير وبتضامن منقطع النظير.. باستثمار أمثل لكل المحافل الدولية والواجهات الأممية.. بالترهيب والترغيب بالقوة الصلبة والناعمة ضد الدول لكسب التأييد، يطلق الغرب حملة شرسة ضد روسيا، متهما إياها بارتكاب جرائم حرب على الأراضي الأوكرانية.
ويقينا أن الموقف الأخلاقي يُحتّم على البشرية استنكار واستهجان هذا العمل الهمجي والتعاطف مع الشعب الأوكراني، فما فتئت الحروب تطلق ألسنة اللهب على الأبرياء وتهدم حضارة البشر، وتبقى الإدانات مجرد صدى عاطفي يضيع بين مصالح الكبار في هذا العالم، لكن هذا التكاتف المثالي في استنكار ما حصل، والدعوات عالية الأصوات، التي تطالب بإحالة الملف إلى محكمة الجنايات الدولية، وإنشاء محكمة خاصة بجرائم الحرب في أوكرانيا، وطرد عشرات الدبلوماسيين الروس من العديد من البلدان الأوروبية ردا على الجريمة، يجعلنا نتساءل، ماذا عنا نحن الذين واجهنا أضعاف هذه الجريمة؟ لماذا لم تُستثمر كل هذه المنصات الدولية لإدانة الذين ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادات بشرية في دول أخرى؟ ولماذا لم تتعاطف كل هذه الأعداد من الدول مع الآخرين الذين لقوا المصير نفسه؟ وأين كان الضمير الإنساني لدى هؤلاء الذين ملأوا الفضاء صراخا وأسفا على الضحايا ؟ أم أن الجغرافية والعرق واللون هي بيضة القبان التي ترفع من معاناة هذا وتحط من مأساة ذاك؟
نعم من حق كل هؤلاء أن يصرخوا في وجه بوتين، وأن يطالبوا بإنزال أقسى العقوبات بحق من أعطى الأوامر، وبحق من نفذ هذه الجرائم البشعة ضد مواطنين عُزّل، لكن كي يكون هذا الصراخ على قدر الألم الحقيقي من هذه الجريمة، عليهم أن يثبتوا أنهم ينظرون لهذه الجريمة بزاوية الرؤية نفسها للجرائم الأخرى، وأن يكون المقياس هو نفسه وحزمة الضوء بالكثافة نفسها. عكس ذلك يصبح الصراخ والتضامن لعبة سياسية في حرب أيديولوجية، الهدف منها إسقاط الآخر بالضربة القاضية، وبذلك يكون العالم أمام عملية استثمار سياسي ضد عدو لا أكثر، وأن دماء الضحايا الأوكرانيين ليست سوى بوق آخر تستخدمه الولايات المتحدة والغرب وحلف الأطلسي للصراخ في وجه منافس دولي، بعد أن تم استخدام الأبواق السياسية والاقتصادية والفنية والرياضية والثقافية والتسليحية والاستخباراتية ضد روسيا. أما من يقول إن كل هذه الهبة ألم حقيقي على الضحايا وليس استثمارا، فسنكون مرة أخرى أمام ازدواجية المعايير الغربية، التي ظهرت بصورة جلية في هذه الحرب، ابتداء من المقارنات المخزية التي سمعناها من الإعلام الغربي بين اللاجئين الأوكرانيين الذين يشبهونهم، واللاجئين من البلدان الاخرى الذين لا يشبهونهم، واللاجئين الذي لديهم سيارات تشبه سياراتهم وحياة مثل حياتهم، والآخرين الذي لا يملكون ذلك، وصولا إلى السماح ببث رسائل وكتابة تعليقات تدعو إلى العنف ضد روسيا على مواقع التواصل الاجتماعي، في حين تُحرّم مثلها ضد إسرائيل على سبيل المثال. إن ما يجب التأكيد عليه، هو أننا في عالم فيه كل المنصات الأممية وبضمنها المحكمة الجنائية الدولية مُسيّسة، وأن الولايات المتحدة وبقية الدول الكبرى تستخدم هذه المنصات كمنابر لها، تحصل فيها على القرارات وتمارس فيها كل أنواع الضغوط على الآخرين كي يرضخوا، وأن مصطلح العدالة الدولية يحمل الكثير من الكذب والخداع، لأن هذه العدالة ذات وجه غير حقيقي، بسبب أن القانون الدولي الإنساني ما زال رهينة الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.. تصوروا أن الولايات المتحدة تمنع أن يُحاكم المواطن الأمريكي خارج الولايات المتحدة مهما كان الأمر، وانظروا حجم النفاق والمعايير المزدوجة في الموقف الأمريكي، فقد رفضت الولايات المتحدة الأمريكية إبرام الاتفاقية المُنشأة لمحكمة الجنايات الدولية. كما اتخذت مواقف عدائية من هذه الاتفاقية، حيث طلبت من الدول التي تنضم إلى هذه المحكمة التوقيع على اتفاقيات خاصة معها، تمنعها من اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية في جرائم ممكن أن تُرتكب من قبل مسؤولين مدنيين وعسكريين أمريكيين، لكنها في الوقت نفسه لا تتورع عن القيام بنشاط داخل مجلس الأمن الدولي لإحالة قضايا عديدة على محكمة الجنايات الدولية ضد دول أخرى. كما أنها في الوقت نفسه رفضت شروع المحكمة الجنائية الدولية في النظر في جرائم الحرب، التي ارتكبتها القوات الامريكية في أفغانستان والعراق، حينها قال الرئيس السابق دونالد ترامب (المحكمة الجنائية ليس لديها المسؤولية ولا السلطة ولا المشروعية).

إننا في عالم كل المنصات الأممية فيه وبضمنها المحكمة الجنائية الدولية مُسيّسة،
والولايات المتحدة وبقية الدول الكبرى تستخدم هذه المنصات منابر لها

إن من أكبر الأزمات التي تتسبب في ضياع حقوق الدول والشعوب، هو وجود علاقة عضوية بين قضية العدالة في العلاقات الدولية والدبلوماسية والسياسية وميزان القوى في العالم، أي أنه عندما يتطلب الموقف المحافظة على ميزان القوى الدولية، فإن التغاضي عن جرائم الحروب والجرائم ضد الإنسانية وحتى الإبادات الجماعية ممكنة، وعندما يتطلب ميزان القوى رفع كفة هذه القوة الدولية على الأخرى، فإن الاتهامات والتسويق لجرائم الحرب تصبح ممكنة أيضا. ويلخص هذا المشهد بصورة جلية جدا آخر سفير أمريكي في الاتحاد السوفييتي السابق، معترضا على اتهام روسيا اليوم بارتكاب جرائم حرب ويقول (من الخطأ بمكان تصوير وتحويل أكبر دولة تملك ترسانة نووية إلى دولة شريرة ودولة مارقة، لأن هذا يمكن أن يكون له تهديد على الأمن الدولي) وبذلك يمكن أن ينطبق هذا التصريح على الدول الأخرى الكبرى أيضا، لأن كل دولة كبرى قادرة على تعطيل العدالة الدولية بالفيتو. من هنا تصبح كل المحاكم الدولية ليس لديها القدرة على معاقبة الجُناة.
يقول مثل إنكليزي (أقتل شخصا واحدا أنت مجرم، أقتل مليون شخص أنت استراتيجي) يلخص هذا المثل حالة العدالة الدولية بشيء من المفارقة الكبرى. فعلى مدى أكثر من سبعين عاما يُقتل الأطفال والنساء والشيوخ في فلسطين يوميا، ومارس العدو الصهيوني ضد كل أهلنا في فلسطين جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، لكن العدالة الدولية لم تر كل ذلك لأنها بعين واحدة. وفي أفغانستان وسوريا واليمن وليبيا والعراق، ارتكبت القوات الامريكية والبريطانية والقوى المتحالفة معهما كل صنوف الجرائم، كما صُهرت أجساد المئات من الأبرياء في قصف ملجأ العامرية ببغداد في تسعينيات القرن المنصرم، ولم نر للغرب تحركا ولا صوتا ولا طلبا لمجلس الأمن بالانعقاد ولا دعوة لتشكيل محاكم خاصة. الأكثر غرابة أن موسكو كانت تقصف يوميا المدن السورية، وتقتل المئات، لكننا لم نجد الدول الصارخة اليوم بوجه روسيا في عدوانها على أوكرانيا، كانت تصرخ بوجهها في عدوانها على أهلنا في سوريا أيضا. قال شريك لي في حوار على إحدى القنوات الأجنبية الناطقة باللغة العربية، وهو مختص بالقانون الجنائي، إنه يجب علينا نحن العرب أن نضع ثقتنا في العدالة الدولية، وأن لا نستعجل في الحصول على حقوقنا لأنها مقبلة لا محالة، وأن تكون حقوقنا مثل المنديل يجب أن نلوح به باستمرار وأن لا نرميه، لكن نسي هذا الزميل أن منديلنا ليس أبيض، وأن الزهور المرسومة عليه ليست زرقاء، وأن المكان الذي نلوّح منه ليست أوروبا.

*كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية - القدس العربي
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • هل اتخذت طهران قرار مواجهة الانتفاضة العراقية؟






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي