إيران ودروس الحرب
2022-01-26
محمد جميح
محمد جميح

بدأت الحرب العراقية الإيرانية أو «حرب الخليج الأولى» في سبتمبر 1980، وانتهت بتجرع الخميني «كأس السم» حسب تصريحه، بسبب اضطراره للموافقة على وقف إطلاق النار الذي دعت إليه الأمم المتحدة في أغسطس 1988.
كان أهم الدروس التي خرجت بها طهران من تلك الحرب أن الدخول في حرب مباشرة مع العرب سيكلفها الكثير، بعد سقوط مليون قتيل خلال ثماني سنوات أكثرهم من الجانب الإيراني، ناهيك عن ملايين الجرحى والمعاقين والأرامل والأيتام، وكان الدرس المهم الآخر يتمثل في أن إجماع أغلبية العرب على الوقوف ضد سياساتها سيكلفها الكثير، ناهيك عن دروس حول ضرورة التركيز على بناء القوات الجوية.
أما فيما يخص الدرس الأول، فبعد أن أدركت طهران الكلفة المادية والبشرية للحرب المباشرة مع العراق، لجأت إلى تكتيكات أخرى يأتي في مقدمتها أسلوب الحرب غير المباشرة، وهي الحرب بالوكالة عن طريق ميليشيات أنشأتها في بلدان عربية عدة، توجهها طهران، وتعمل لخدمة المصالح القومية الإيرانية، على حساب مصالح البلدان التي تنشط فيها هذه الميليشيات.
اكتفت إيران وفقاً لهذا التكتيك بإرسال صواريخها البالستية وطائراتها المسيرة إلى ميليشياتها في اليمن – مثلاً – مع عدد من خبراء الحرس الثوري وحزب الله، لينطلق الصاروخ الإيراني من صنعاء أو صعدة أو عمران أو الجوف على عدن أو مأرب أو أبها أو أبوظبي، وتكمل آلة الدعاية الإيرانية الصورة بالحديث عن «الصواريخ اليمنية المتطورة» التي ضربت «عمق عملاء أمريكا وإسرائيل»، ليكتمل المشهد بدعوة على لسان مسؤول إيراني، يدعو السعودية إلى «وقف عدوانها على اليمن»، حرصاً من طهران على «الشعب اليمني المسلم».
ووفقاً لهذا التكتيك كذلك، ضربت طهران السنة والشيعة العرب ببعضهم، وفرت الكثير من الدماء، بعد أن أصبح ممكناً ضرب العربي السني بالعربي الشيعي والعكس، وفي الحالين تخرج طهران رابحة. فإذا ضُرب الشيعة العرب على يد تنظيمات متطرفة سنية استغلت طهران ذلك لتحشيد الشيعة وراءها، على اعتبار أنها حامية حمى الشيعة و»العتبات المقدسة» في الأراضي العربية، وإذا ضُرب السنة من قبل الميليشيات الشيعية التي أنشأتها طهران تكون طهران قد أضعفت المكون العربي الأكبر، وضمنت استمرار حروب الوكالة لصالحها في البلدان العربية، بأقل قدر من الكلفة المادية، وبخسائر صفرية في الأرواح الإيرانية.
أما بالنسبة للدرس الثاني الذي استخلصته طهران من حربها مع العراق، فهذا الدرس يدور حول فكرة محورية، وهو إضعاف الدول العربية عن طريق تكتيك «التحييد»، حيث تحاول آلة الدعاية الإيرانية التقليل من شأن حروبها غير المباشرة على عدد من الدول العربية، وذلك بالترويج لفكرة أن تلك الحروب محصورة جغرافياً على نطاق من تسميهم طهران «عملاء أمريكا من حكام الخليج»، وذلك لكي تصرف أنظار بقية العرب عن خطورة مشروعها التوسعي في العالم العربي كله، تماماً كما تحاول التقليل من شأن تلك الحرب بالإيهام بحصرها على «التطرف الوهابي الداعشي والقاعدي»، لكي ترسل بتطمينات إلى الأكثرية السنية بأن حربها لا تستهدف السنة، وذلك لتحييد الأغلبية عن حربها ضدهم، بالقول إنها على الإرهاب فقط.
على المستوى القومي – إذن – تدعي طهران أن حروبها مقصورة على «بعض العرب» لتحييد «كل العرب» عن المواجهة، وعلى المستوى الطائفي تروج أن تلك الحروب موجهة ضد «الوهابيين» لتحييد «كل السنة»، ومع الزمن يتضح أن المستهدف بالحرب هم العرب دون استثناء والسنة دون تخصيص.
وفي الوقت الذي توظف فيه إيران تكتيك «التحييد»، لتضمن بواسطته «تفكيك الكل إلى أجزاء متنافرة»، لتسهل السيطرة على ذلك الكل، فإنها تسعى إلى «تجميع أجزاء متنافرة أخرى في كل واحد»، لتسهيل سيطرة «أجزاء إيران» على «كل العرب» أو هيمنة «أقلياتها» على «أكثرية العرب». ووفقاً لهذا التكتيك سعت طهران إلى جمع الشيعي الإمامي والعلوي والكثير من الزيدية الهادوية والدروز وبعض المسيحيين في تحالف واحد للأقليات بقيادتها، بعد تخويف تلك الأقليات من الأغلبية التي تم شيطنتها بدعوى الإرهاب، ومن ثم العمل على استهدافها بالتفكيك والتحييد، سعياً وراء الهدف الأساسي الذي تسعى من ورائه طهران، والمتمثل في «تغليب الأقلية» على المستوى الكيفي في المدى القريب، وعلى المستوى الكمي في المدى الأبعد.
حققت التكتيكات الإيرانية المذكورة نجاحات ملحوظة بلا شك، لكن تلك التكتيكات كتب لها النجاح بفعل اعتمادها على أساليب التنكر والتمويه وإخفاء المرامي والأهداف تحت بريق الشعارات وخداع الجماهير، غير أن تجارب السنوات الأخيرة جعلت الكثير من الدعاية الإيرانية تتداعى، لتظهر الصورة جلية بعد أن كشفت طهران بالممارسة والتصريحات عن حقيقة الأهداف التي كانت تحرص على إخفائها، استناداً من الإيرانيين إلى الشعور بأنهم قد أصبحوا في موقع من القوة يؤهلهم للكشف عن حقيقة الأهداف التي أصبحوا يرون أنها محمية بقوة السلاح والميليشيا.
وخلال السنوات الأخيرة سمعنا مسؤولين إيرانيين ورجال دين يتحدثون عن منجزات طهران في البلدان العربية، وسمعنا من يتحدث عن الحدود الجيوسياسية لإيران التي تتخطى الحدود الجغرافية، ومن يذكر سيطرة إيران على أربع عواصم عربية، وسمعنا رجل الدين الذي كشف حقيقة أن «حزب الله إيران، والحشد الشعبي إيران، وأنصار الله إيران، والجبهة الوطنية التقدمية إيران…»، وسمعنا تصريحات لمسؤولين يتحدثون عن أنه لولا قتال إيران في الموصل وحلب وتعز ومأرب وغيرها من المدن العربية لكانت الحرب اليوم في شوارع طهران وشيراز وأصفهان وغيرها من مدن إيران.
هذا التراكم الكمي في الممارسات والتصريحات الإيرانية راكم – بدوره – حركة وعي سريع لدى قطاعات واسعة من الشيعة العرب الذين بدأ الكثير منهم يدرك أن إيران لا تحميهم، بل تقدمهم قرابين على مذبح طموحاتها القومية، وقد شهدنا مدناً تمثل معاقل لحزب الله في جنوب لبنان تنتفض ضد الحزب الذي فاخر زعيمه ذات يوم بأن سلاحه ومعاشه ومأكله ومشربه وملبسه وكل ما له علاقة به هو من إيران، بعد أن فاخر بأنه جزء من دولة الولي الفقيه في طهران. رأينا – كذلك – الحرائق تلتهم مقرات قنصلية لطهران في جنوب العراق، قبل أن يوجه شيعة العراق صفعة قوية لتحالف ميليشيات طهران الذي مني بهزيمة ساحقة في الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة، وقبل ذلك وبعده رأينا صوراً لخامنئي وسليماني وغيرهما تحترق في شوارع طهران نفسها التي يهتف المحتجون فيها في كل مرة يخرجون للشوارع: «الموت للديكتاتور».
في السابق كان النظام يتكئ على كم هائل من الدعاية الأخلاقية والدينية المثالية، وهو ما كان يجلب له الكثير من الدعم داخل البلاد وخارجها، أما وقد بدأت هذه الغلالة الدينية والأخلاقية الرقيقة تظهر وجه النظام الحقيقي فإنه لم يعد لديه ما يعتمد عليه في البقاء سوى القوة العسكرية التي يعمل بها على إخضاع الداخل، وعلى تفجير الفتن والحروب في الإقليم، هرباً من استحقاقات الداخل، وابتزازاً للخارج.
لكن النظام الخميني الذي جاء على أنقاض النظام البهلوي بجيشه الأقوى نسي أن الشاه سقط بين عشية وضحاها رغم قوة جيشه، وأن الاتحاد السوفييتي انهار وهو يحمل على ظهره آلاف الأطنان من الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، دون أن تجديه شيئاً، بعد أن دبَّ الضعف الاقتصادي والسياسي والروحي داخل مؤسساته العملاقة.

 

*كاتب يمني - القدس العربي
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • إسرائيل تعظ… الشيطان يندهش!
  • حرب غزة وعمليات «التجريف الدلالي»
  • إنا لله وإنا إليه راجعون… البعد الروحي في صمود غزة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي