جولة بلينكن الأفريقية: استئناف جامدٍ أمريكيٍ راكدٍ
2021-11-18
 صبحي حديدي
صبحي حديدي

إلى مساعدته للشؤون الأفريقية مولي فيي أسند وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مهمة معالجة المشكلات المعقدة في السودان وأثيوبيا، واختار الذهاب إلى كينيا ونيجيريا والسنغال في أول جولة أفريقية له؛ أو لإدارة الرئيس الجديد جو بايدن، في المستوى الدبلوماسي على الأقل. زميله وزير الدفاع لويد أوستن كُلف بتدشين جولة أخرى هي الثانية للبنتاغون هذه السنة، تشمل اثنتين من دول اتفاقيات أبراهام، الإمارات والبحرين؛ بعد أسابيع على جولة زار خلالها قطر والبحرين والكويت لتقديم الشكر على ما تلقته الولايات المتحدة من مساعدات في إجلاء رعايا أمريكيين من أفغانستان. الأساس، في هذه الجولات مختلفة الأجندات والأغراض، يمكن أن يبدأ من حرص البيت الأبيض على تبديل صورة الولايات المتحدة هنا وهناك، أو بالأحرى تبديد الصورة السابقة التي أشاعتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.
الحصيلة، من حيث النجاح أو الفشل حتى في مستويات نسبية، أمر آخر مختلف تماماً لأن خيارات السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الطور الراهن، في القرن الأفريقي أو أفريقيا الوسطى أو الخليج العربي أو منطقة الشرق الأوسط، ليست في أي طور مستجد من حيث الرهانات السابقة أو القديمة، أو ببساطة تلك التي خلفتها دبلوماسية وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، أو سلفه ريكس تيلرسون. البعض يذهب أبعد في اللائحة، محقاً بالفعل ضمن اعتبارات عديدة، فيتساءل إنْ كانت دبلوماسية جون كيري أو هيلاري كلنتون، خلال رئاسة باراك أوباما؛ أو كوندوليزا رايس وكولن بأول، خلال عهد جورج بوش الابن؛ قد تبدلت حقاً، في ركائز المحتوى الكبرى.
ذلك لأن «أعمدة الحكمة» في التفكير الستراتيجي الذي اعتمدته الإدارات المتعاقبة في التعامل مع القارة ظلت أقرب إلى عناوين عريضة، أو لائحة حسن نوايا؛ خضعت، مع ذلك، ولأسباب جيو ـ ستراتيجية غالبة وذات أولوية، إلى متغيرات تكتيكية طارئة أسهمت في تفريغ التفكير من مادته العملياتية، وتكفلت برده على الدوام إلى صيغة اللافتة الجامدة الساكنة، والخاوية في الأغلب الأعم. كانت مشكلات القارة، شعوباً وأنظمة، في واد؛ وأهداف للإدارات، مثل توطيد الديمقراطية والحوكمة والسلام والأمن، والاستقرار والتنمية والاستثمار، في واد آخر بعيد أو ناءٍ تماماً. وهكذا، منذ أن «اكتشف» البيت الأبيض وجود القارة الأفريقية أواخر خمسينيات القرن الماضي، تراكمت تباعاً حلقات من القراءة السطحية، أو الخاطئة، أو القاصرة، أو الانحيازية، أو العشوائية.
ولقد قيل، بحق هنا أيضاً، أن مخططي السياسة الخارجية الأمريكية مارسوا في القارة دور الثور الضخم البليد، الذي يغرق في سبات عميق حتى تلوح في الأفق نجمة حمراء سوفييتية، وعندها فقط يهيج ويرغي ويزبد، ثم يحيك المؤامرات ويشتري العملاء ويسلح الطغاة حتى النواجذ. خلال الثمانينيات صرف الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان مئات الملايين من الدولارات لإغواء أسوأ دكتاتوريي القارة واجتذابهم، في ليبيريا وكينيا والصومال وزائير وسواها. وخلال تلك الحقبة بالذات قبض محمد سياد بري، دكتاتور الصومال الأشهر، أكثر من 700 مليون دولار على شكل مساعدات مالية وعسكرية من إدارتَيْ ريغان وجورج بوش الأب، استخدمها في بناء شبكات الولاء العشائرية، وقمع الشعب الصومالي، وتفتيت الوحدة الوطنية الداخلية.

مخططو السياسة الخارجية الأمريكية مارسوا في أفريقيا دور الثور الضخم البليد، الذي يغرق في سبات عميق حتى تلوح في الأفق نجمة حمراء سوفييتية، وعندها فقط يهيج ويرغي ويزبد، ثم يحيك المؤامرات ويشتري العملاء ويسلح الطغاة

والتاريخ جعل من المسلم به، اليوم، أن غزوة واشنطن الصومالية الشهيرة، في عام 1991، لم تستهدف اقتفاء أثر «القاعدة» أو مطاردة أسامة بن لادن؛ بقدر ما سعت إلى إطلاق مشروع انتداب عسكري يستأنف ما كان سياد بري يقوم به لصالح واشنطن، أي ضبط القرن الأفريقي. كذلك كانت الغزوة تسير على نقيض صريح، وصفيق تماماً، مع منطوق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 751، الذي منح التخويل بنشر قوات عسكرية أممية لتنظيم عمليات الإغاثة الإنسانية؛ لا لشيء إلا لأن الرجل المسؤول عن خراب البلد (سياد بري نفسه) كان ببساطة صنيعة البيت الأبيض. وفي تلك الأثناء كان رجل مثل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر يفلسف الغزوة على أنها محض ممارسة لـ«العبء التمديني» الملقى ـ تاريخياً، حضارياً، سياسياً، واقتصادياً… ـ على عاتق الرجل الأبيض. وأما عملياً فقد كانت القارة تستشرف المزيد من المجاعات والأوبئة والحروب الأهلية، وتخضع أكثر فأكثر لهيمنة مؤسسات كونية لا تشتغل إلا لصالح اقتصاد السوق.
ثم أتى ردح من الزمن أجبر الثور الأمريكي على استبدال النجمة السوفييتية الحمراء بالراية الإسلامية الخضراء، أو ربما بالهلال فقط؛ تسهيلاً للأمريكي ذي الوعي المتوسط، كي يدرك مغزى التوافق في العلامة، بين النجمة والهلال! ومنذئذ حلت ذريعة محاربة «الإرهاب الإسلامي» محل ذريعة محاربة الشيوعية، دون أن يتغير الكثير في المعادلة الفاسدة العتيقة: كي تحارب هذا أو ذاك (الشيوعية، أو «الإرهاب الإسلامي») يتوجب أن تساند الطغاة على الأرض، أياً كانت موبقاتهم وجرائمهم. ويبقى، إلى هذا وذاك، أن تعلم أي شيء من دروس التاريخ كان خياراً غير ممكن، أو حتى غير مطروح على رجالات البيت الأبيض، بل ظل عند بعضهم رياضة ماركسية ديالكتيكية غير مستحبة أيضاً!
وأن يجهد بلينكن اليوم كي يبدل نظرة القارة، شعوباً وأنظمة هنا أيضاً، إلى الولايات المتحدة ما بعد ترامب؛ وأن يفعل هذا عبر محاور مثل إشاعة لقاحات كوفيد ـ 19 الغربية بدل اللقاحات الصينية، أو يسترضي هذا الشعب أو ذاك إزاء الإحباط الذي انتهى إليه مؤتمر غلاسكو للمناخ بصدد المعونات المالية للمجتمعات الفقيرة والدول النامية… أمر لن يضيف الكثير إلى عطالة السياسات الأمريكية المديدة حول القارة، ولن يفلح في إعادة إعمار ما تخرب أصلاً طوال عقود وليس خلال إدارة ترامب وحده. صحيح أن الأخير رفض زيارة القارة، بما يشبه محوها تماماً من خريطة الكون، وقال في شعوبها أقذع الكلام والصفات؛ ولكن… ماذا فعل للقارة سلفه باراك أوباما، أول رئيس أفرو ـ أمريكي في تاريخ الولايات المتحدة، رغم أربع زيارات وليس واحدة، ورغم صلة القربى التي تجمعه ببلد مثل كينيا؟
وإلى جانب ما هو معتاد من كيل بمكيالين ومحاباة لأنظمة الاستبداد والفساد لأسباب تخص مصالح واشنطن واحتياجاتها الجيو ـ سياسية، لا تتورع السياسة الأفريقية للولايات المتحدة عن اعتماد خيارات تنتهي أخيراً إلى شطب القارة بأسرها، إزاء واحدة من أكثر مشكلاتها حساسية: التمييز العنصري. وذات يوم قاطعت واشنطن «المؤتمر العالمي لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب» صيف 2001 في دوربان، أفريقيا الجنوبية؛ بذريعة أن المؤتمر يستهدف دولة الاحتلال الإسرائيلي. آنذاك قال بوش الابن: «لن نرسل ممثلاً إلى مؤتمر مناهضة العنصرية في دوربان طالما أن هناك مَن يستهدف إسرائيل، ومَن يقول إن الصهيونية تساوي العنصرية. وإذا كانوا سيستخدمون المنتدى كوسيلة لعزل صديقتنا وحليفتنا الأقرب، فإننا لن نشارك».
ما عجزت مساعدة بلينكن عن إنجازه في السودان (لأن زميلها المبعوث الأمريكي الخاص إلى القرن الأفريقي سبقها و«غمز» لأمثال عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو وشمس الدين الكباشي)؛ سوف يعجز عن إنجازه بلينكن نفسه في كينيا ونيجيريا والسنغال، لاعتبارات شتى في طليعتها أن القارة جربت أمثاله. وحتى لو شاءت تجريب المجرب من باب انعدام البدائل، أو اليأس مثلاً، فإن الحصيلة مع الولايات المتحدة لن تغادر سماتها القديمة المقيمة: جامدة ساكنة راكدة، وخاوية في الأغلب الأعم.

*كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس

 



مقالات أخرى للكاتب

  • نيويورك تايمز: خيانات ما تبقى لهم من ضمائر
  • هويات بلينكن: قاب قوسين من الصهيونية… أم أدنى؟
  • من فييتنام وتشيلي إلى العراق وفلسطين: كيسنجر في مزابل التاريخ





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي