حروب الأسماك بين فستق الاقتصاد وديناميت السياسة
2021-11-04
 صبحي حديدي
صبحي حديدي

كان السير كون أونيل (1912-1988) أحد كبار الدبلوماسيين البريطانيين المعنيين بتطوير صلات التاج البريطاني مع الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية المشتركة، وكان استطراداً أحد أوائل الضليعين في المشكلات المختلفة التي نشأت من حول، أو بسبب، انضمام بريطانيا إلى أوروبا. وللرجل قول مأثور، جدير بالاستعادة في هذه الأيام تحديداً إذْ تندلع حروب الأسماك بين فرنسا والمملكة المتحدة: «مسألة المصائد فستق اقتصادي، ولكنه ديناميت سياسي». وفي أواخر العام المنصرم 2020، حين كانت مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مستعرة من حيث التعقيد والشدّ والجذب، نشرت بريطانيا أربع بوارج حربية في مناطق الصيد التي تعتبرها سيادية؛ ليس لمواجهة أيّ أخطار أمنية أو إرهابية، بل لردع سفن الصيد من ثماني دول أوروبية حليفة، في طليعتها الجارة فرنسا.
وثمة تاريخ، طويل عريض في الواقع، يشهد على حروب الأسماك بين جيران بريطانيا، أو حتى ضمن مكوّنات المملكة المتحدة ذاتها، مع اسكتلندا مثلاً؛ لعلّ أشهرها ما عُرف باسم «حروب سمك القدّ» بين بريطانيا وآيسلندا حول الصيد شمال المحيط الأطلسي، والتي اندلعت أو خمدت أو عادت إلى الاندلاع على امتداد قرون وعقود ابتداء من القرن الخامس عشر، إلى أن استقرت بناء على قرار من محكمة العدل الدولية سنة 1951. من جانبه يسجّل التاريخ صراع القوى الاستعمارية على شواطئ الشعوب الأخرى وليس المياه الإقليمية لبريطانيا أو فرنسا أو هولندا أو إسبانيا او البرتغال أو بلجيكا؛ ولعلّ الحقبة الأكثر انطواء على صراعات الأسماك كانت خلال القرن السابع عشر حين انفردت هولندا بأسطول الصيد الأقوى عالمياً، فدخلت نتيجة تلك الحال في صراعات مباشرة أو غير مباشرة مع الجارات، سواء في المياه الأوروبية أو في البحار والمحيطات وشواطئ المستعمرات.
طريف، إلى هذا، أنّ التاريخ الاستعماري حفظ لنا سلسلة من «الاجتهادات» القانونية حول حقوق الصيد، حيث أنّ المحامي والدبلوماسي الهولندي هوغو غروتيوس ابتكر نظرية «البحر الحرّ» ليبرّر تسلّط بلاده على أيّ بحر تشاء؛ فاعترض عليه محامون ودبلوماسيون بريطانيون، الذين طرحوا في المقابل نظرية «البحر المغلق» ليتراجعوا عنها في أطوار لاحقة من مسارات التاج البريطاني الاستعمارية، وذلك لاعتناق نظرية «البحر الحرّ» إياها، التي تخلى عنها الهولنديون لصالح نظرية «البحر المغلق» بعد أن كانت ذروة مرجعياتهم خلال صراعهم مع البرتغال حول مصائد المحيط الهندي! ولم يكن هذا سوى «فستق قانوني» كي يعود المرء إلى تعبير سير أونيل، يخفي «الديناميت السياسي» الفعلي لصراع تلك القوى.
هذا إذا اكتفى المرء بحكاية الأسماك، ولم يذهب أبعد (أو بالأحرى: أعمق) في جوف البحار والمحيطات للإشارة إلى ما هو أثمن بكثير من الأسماك، أي ثروات النفط والغاز والمعادن التي تختزنها القيعان؛ وهنا لا يلوح أنّ بعض الدول، والقوى الاستعمارية القديمة على رأسها، ترضى بما هو أقلّ من 200 ميل في عرض البحر. وكانت «معاهدة الأمم المتحدة حول قانون البحار» لعام 1982، قد صيغت بتأثير مفاعيل «حروب القد» وتزايد الصراعات حول حقوق شتى تخصّ المياه الإقليمية، وما بعد الثرورة السمكية في الواقع؛ ولهذا لم يكن غريباً أن ترفض دولة عظمى مثل الولايات المتحدة المصادقة عليه، لأسباب استثمارية لا تخفى، ولا تقتصر على المصائد.
هذه ظواهر تعيد الأذهان إلى مآزق الدولة الرأسمالية المعاصرة، بصفة عامة، ولكنها تحيل كذلك إلى التنظيرات التي بشّرت بانتصار هذه الدولة بعد انهيار جدار برلين وتفكك «المعسكر الاشتراكي» وما قيل عن هيمنة القطب الواحد؛ مرّة وإلى الأبد، كما ساجل البعض من أولئك المنظّرين. ففي الصفحات الأولى من كتابه الثاني «الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق الرخاء» 1995، الأهمّ بعد كتابه الأوّل والأشهر «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» 1989؛ اعترف فرنسيس فوكوياما بأنّ الهدوء الذي أعقب انهيار الشيوعية كان مريباً وخادعاً لأنه أخفى ما سينفجر من ضجيج وعجيج حول آفاق تطوّر الإنسانية (التي اختتمت تاريخها) ومعضلات إنسانها الأخير (أو خاتم البشر، للتذكير الضروري) في تقاسم اقتصاد ما بعد التاريخ. وبطبيعة الحال سكت فوكوياما عن الأشباح القومية والإثنية التي استيقظت في وجدان ذلك الإنسان ومن حوله، وأشعلت الحرائق هنا وهناك، فانشغل الاقتصاد بلملمة الأشلاء والأموات بدل رعاية الأحياء.
ولم تشمل فصول هذا الكتاب الثاني أي أسماك، فستقاً كانت أم ديناميتاً، إذْ راهنت على إمكانية بلوغ الرخاء من باب التعاضد الاجتماعي ـ الثقافي بين الأمم الرأسمالية، دونما حاجة حتى إلى اقتصاد السوق وفتح أصقاع الأرض أمام استثمارات الرساميل العملاقة. ذلك لأن الاقتصاد الذي لا ينهض على الثقة التلقائية وائتمان الآخر هو، في يقينه، اقتصاد بطيء النموّ محدود الرخاء ولن يكون له مكان مرموق تحت شمس العالم ما بعد نهاية التاريخ. ومفهوم التعاضد الاجتماعي مركزي في هذا المعمار النظري، وفوكوياما يقسمه إلى ثلاثة سُبُل: العائلة والقرابة أوّلاً، والترابط الطوعي خارج مختلف أنماط القرابات (أواصر الدم والحزب والمنظمة والمعمل والمؤسسة) ثانياً، والدولة ثالثاً.
ثمة، في جانب آخر من المعادلة، رأس المال الاجتماعي الذي تملكه دول وتحسن توظيفه على أساس مبدأ الثقة بين المنتج والمستهلك وبين السوق والسلعة، أو لا تملك الكثير منه دول أخرى وتسيء توظيف ما تملك لصالح طغيان ولاءات أخرى أدنى مستوى (المؤسسة البيروقراطية، العائلة، الدولة)؛ أو تفتقر إليه تماماً دول ثالثة لا يشير إليها فوكوياما، وكأنه يعتبرها خارج المعادلة الكونية لهذا الاندماج السحري الناجح بين الأخلاق والسوق (وغنيّ عن القول إن اقتصادات العالم الثالث هي على رأس هذه اللائحة). والرجل لا يمزح البتة حين يشرح مفهوم الثقة على مدى صفحات طويلة، بينها على سبيل المثال قوله إن المفهوم «يشمل المطمح المنبثق في إطار جماعة بشرية تتصف بالسلوك المشرّف المنتظم المتعاون، المرتكز على أعراف مشتركة تجمع أبناء الجماعة وتصنع تلاحمهم وتآزرهم، ويمكن أن تمتد على نطاق عريض يبدأ من قِيَم العدل الإلهي ويمرّ بالقيم العلمانية وشرائع السلوك». أو قوله، بشيء من التبسيط البعيد عن الفلسفة، إنّ الثقة بين السلعة والسوق هي أشبه بالثقة التي نمنحها للطبيب حين نسلمه أجسادنا من دون ارتياب، وليس لدينا من ضامن سوى معرفتنا أنه أدّى قَسَم أبقراط.
والحال أنّ النزاع الفرنسي ـ البريطاني الراهن، حول امتناع لندن عن منح التراخيص لحفنة سفن صغيرة فرنسية كانت تصيد قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ أو امتناع باريس عن منح الإذن لسفن صيد بريطانية بتفريغ اسماكها في مرافئ فرنسية، كما كانت تفعل في الماضي؛ لا صلة، البتة، تجمعه بالثقة بين مجتمعات رأس المال واقتصادات السوق أو إنسان ما بعد انتهاء التاريخ أو حتى «القِيَم المشتركة» بين الشقيقات الأوروبيات. هذه حروب قد تبدأ فعلياً من فستق الاقتصاد، لكنها مرشحة بالضرورة إلى تحوّل نوعي يجعلها ديناميت سياسة ونفوذ ومصالح محلية، وحسابات انتخابية لدى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؛ فضلاً، بالطبع، عن كونها تجليات لا مفرّ من أن تطفو على سطح اعتلالات جوهرية أصابت، وتصيب، الدولة الرأسمالية المعاصرة.
وبعد أكثر من 170 سنة على التشخيص الماركسي الشهير، ما تزال الرأسمالية المعاصرة مثابرة على خلق حفّاري قبرها؛ على الأرض غالباً، في السماء بين حين وآخر، أسوة بالبحار والمحيطات…

 

*كاتب وباحث سوري يقيم في باريس



مقالات أخرى للكاتب

  • نيويورك تايمز: خيانات ما تبقى لهم من ضمائر
  • هويات بلينكن: قاب قوسين من الصهيونية… أم أدنى؟
  • من فييتنام وتشيلي إلى العراق وفلسطين: كيسنجر في مزابل التاريخ






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي