ما مصير السلطة الفلسطينية بعد أبو مازن؟
2021-08-24
كتابات عبرية
كتابات عبرية

بمرور ثلاثة أشهر على حملة “حارس الأسوار”، يبدو أن مكانة أبو مازن والسلطة الفلسطينية تواصل التدهور. فالغضب الجماهيري يتواصل، ومظاهر حجب الثقة عنه وعن أجهزة السلطة تتواصل، واتهامات السلطة بالفساد تتعاظم وتترافق وتعابير ساخرة، كما تكثر النزاعات العشائرية العنيفة، بينما أجهزة أمن السلطة تخشى هذا التدهور. لا يدور الحديث عن نقد آخر هدفه إحداث تغيير في السياسة أو إزالة هذا القرار أو ذاك عن جدول الأعمال، تسعى السلطة لفرضه، بل عن نفور وانعدام اهتمام بمواصلة وجود السلطة في صيغتها الحالية، التي تعتبر كريهة وغير آهلة في حكمها، لإعادة البناء على أسس أخرى.

إن إلغاء انتخابات المجلس التشريعي في نيسان 2021، الذي كان المحفز الأساس لحملة “حارس الأسوار” كشف للجمهور الفلسطيني عدم الجدوى من السياسة التي يقودها أبو مازن منذ انتخب في 2005 : التنسيق الأمني مع إسرائيل، ورفض أي احتكاك مع جنود الجيش والشرطة الإسرائيلية، وكذا الاعتماد على الأسرة والمؤسسات الدولية كمركز ضغط على إسرائيل. قاد أبو مازن الخط الذي جعل الكفاح المسلح ضد إسرائيل غير شرعي تقريباً، واعتبر التنسيق الأمني ضرورة لسيطرة السلطة، وحيّد المظاهرات الشعبية خوفاً من فقدان السيطرة، وكذلك المصابين في الصدامات مع الجيش الإسرائيلي ومع المستوطنين. تعتبر هذه السياسة اليوم في نظر الجمهور الفلسطيني سياسة واهنة ومستسلمة، فضلاً عن أنها تعفي إسرائيل من كل عبء أمني، وتحرم الفلسطينيين التهديد بالعمليات باعتبارها وسيلة ضغط أساسية على إسرائيل.

هذه هي خلفية انعدام الهدوء السائد في مناطق الضفة الغربية منذ “حارس الأسوار”. والاحتجاجات ضد أبو مازن والسلطة الفلسطينية تتواصل وتترافق بين الحين والآخر بأعمال فاشلة من أجهزة أمن السلطة. وثمة مثال بارز، وهو موت الناشط نزار بنات في 24 حزيران، في أثناء تحقيق بمنشأة لأجهزة الأمن، مما زاد الغضب. بنات، الذي يعدّ معارضاً مستقلاً كان قد أكثر من نشر الأفلام النقدية ضد السلطة، مما اجتذب متابعين كثيرين. ومنذ الحدث، تمتنع أجهزة الأمن عن المواجهة مع الجمهور، وتتدخل في نزاعات عنيفة بين العشائر، أقل مما في الماضي. يضاف إلى ذلك الاحتكاك المتزايد بين الفلسطينيين والجيش والمستوطنين الإسرائيليين، والذي فيه أيضاً قدر من التحدي والاحتجاج على السلطة الفلسطينية. الاحتكاك يومي تقريباً وينطوي على جرحى وقتلى كثيرين بالنسبة لمعطيات السنوات السابقة في أثناء رئاسة أبو مازن. وحسب تقارير الجيش الإسرائيلي، فإنه منذ “حارس الأسوار” قتل أكثر من 40 شخصاً في هذه الأحداث، وموتهم هذا يغذي الغضب المنتشر في أرجاء الضفة الغربية. سكان بلدة بيتا، المجاورة لبؤرة “أفيتار” الاستيطانية، التي أقامها المستوطنون وأخليت وبقي فيها الجيش الإسرائيلي، يواصلون احتجاجاتهم ضد البؤرة الاستيطانية ويعملون على طريقة الإرباك الليلي بإلهام من حماس في قطاع غزة. لقد ضعفت سيطرة أجهزة أمن السلطة في جنين، ونشطاء الجماعات المسلحة المحلية تستدعي مؤخراً من الجيش الإسرائيلي العمل في المنطقة لإحباط المبادرات لتنفيذ عمليات إرهابية. أما أذون البناء التي صدرت مؤخراً في المستوطنات، فتضيف للتوتر القائم رغم تراخيص البناء التي صدرت بالتوازي للفلسطينيين في المناطق “ج”.

يرى الرأي العام الفلسطيني أن حماس هي الرابح من هذه التطورات. وتعد حماس اليوم كمن يمثل القضية الفلسطينية بشكل أصيل أكثر من السلطة، وكمن لا يخاف الصدام مع إسرائيل. وقدر المستطلع خليل الشقاقي، بأن حماس يمكنها اليوم أن تحدث تغييراً في صيغة العلاقات غير المتماثلة بين إسرائيل والفلسطينيين، وأن إلغاء أبو مازن للانتخابات يشهد على تخليه عن قيادة المواجهة دفاعاً عن الأماكن المقدسة في القدس، وعمق قراره هذا الشرخ مع حماس، وألقى بفكرة المصالحة الوطنية إلى الزاوية، وشجع حماس على تحدي السلطة وإضعافها. أحد الطرق التي توجهت إليها حماس هي الارتباط العلني بمحور المقاومة الذي تحركه إيران وفروعها، وكذا إعلانات صاخبة عن التنسيق بين ساحات الصراع ضد إسرائيل – في الجنوب والشمال.

ومع ذلك، لا يوجد في هذه الظواهر والتطورات ما يخلق الكتلة الحرجة لإسقاط السلطة. فالسلطة الفلسطينية، رغم ضعفها، تحافظ حالياً على مكانتها ولا تزال أجهزتها الأمنية تتمتع بقدرة ردع لا بأس بها.

وهناك عدة حقائق أساسية تساعد أبو مازن والسلطة الفلسطينية على تجاوز الأزمة، حالياً على الأقل. الأولى، هي انتخاب أبو مازن، وإن كان قبل 16 سنة، في انتخابات شرعية (بأغلبية 60 في المئة وليس بأغلبية 90 في المئة فما فوق كما هو دارج في الدول العربية)، وكذا الشرعية الجماهيرية التي حظيت بها خطته السياسية التي تمسك بها. هاتان الحقيقتان تغذيان توقعاً في أن يجتاز بديله هو الآخر مسيرة مشابهة (وليس بالانقلاب). وأضيف إلى ذلك زخم البناء الواسع الذي جرى في الضفة الغربية في السنوات الأولى بعد انقلاب حماس في قطاع غزة. هذه سنوات تولى فيه سلام فياض منصبه وعمل بتعليمات من أبو مازن كرئيس وزراء (2007 – 2013). كان فياض، وهو الذي رفع شعار “لن نبني إذا لم نتحرر، ولن نتحرر إذا لم نبن”،  تبنى سياسة أبو مازن في حينه: فقد بنى، ووسع الاستثمارات في الاقتصاد، وخلف آلاف أماكن العمل، وكافح الفساد بنجاعة. ونشأت في هذه السنوات طبقة وسطى واسعة نسبياً، استفادت من الاستقرار الاقتصادي ومن الدخل الثابت الذي يسمح بالتخطيط للمستقبل، بتلقي القروض البنكية والإيفاء بالتعهدات المالية. وحسب تقارير فلسطينية، فإن أكثر من 150 ألف عائلة أضيفت في هذه الفترة في دائرة الحاصلين على الرزق من النشاط الذي تنفذه أو تحدثه السلطة الفلسطينية في أرجاء الضفة الغربية. كل هذا ينسب لأبو مازن ويجعل من الصعب على الساعين إلى ضعضعة الاستقرار في الضفة الغربية رفع مستوى التوتر والاحتجاج الجماهيري. وفضلاً عن ذلك، فإن الكثير من الفلسطينيين – رغم الغضب المتراكم على مدى السنين تجاه إسرائيل- يرون فيها نموذج قدوة. الشبان وكبار السن المتعلمين إلى هذا الحد أو ذاك، والذين ينتمون في معظمهم إلى التيار غير الإسلامي، يسعون للاستفادة من العلاقة مع إسرائيل وليس خلق دولة عربية أخرى يكون فيها مكان قليل لقيم أساسية مثل حقوق الإنسان. قسم كبير من هذه المجموعة يؤيد فكرة دولة متساوية واحدة، بين النهر والبحر.

وعليه، فطالما بقي أبو مازن في منصبه فمن الصعب على الغضب والاحتجاج -وإن سادا في أرجاء الضفة الغربية- أن يترجما إلى إطاحة، مثلما حصل في عدة دول عربية في أثناء الربيع العربي. حماس وإن كانت هي القوة الأقوى اليوم في الرأي العام الفلسطيني، فإنها على علم جيد بمصاعب قدرتها على الحكم بسبب نقص شرعيتها في أوساط أجزاء واسعة من المجتمع الفلسطيني وضعفها لدى الأسرة الدولية، وهي أمور تستند عليها شرعية وجود السلطة الفلسطينية، خصوصاً جراء المخاطر التي تنطوي على أخذ الحكم دون انتخابات، وكذا بالتشكيك في قدرتها على الحكم في نظر الجمهور. وعليه، وفي أثناء المباحثات في مسألة المصالحة بين الفصائل، أبدت حماس اهتماماً بالمشاركة في الحكم وليس بالقيادة الحصرية.

هل تعني هذه الأمور بأن هذه الاحتجاجات والاحتكاكات الجارية اليوم بين أجهزة الأمن الإسرائيلية والسكان الفلسطينيين في أرجاء الضفة الغربية لا تمس باستقرار السلطة الفلسطينية؟ هل يمكن لإسرائيل أن تكتفي بمحاولات تحسين البنى التحتية الاقتصادية والحياة اليومية للفلسطينيين والمواظبة على سياسة إدارة النزاع، أم أن عليها وضع جوانب أخرى من المعادلة بين ناظريها، ترتبط بالتطلعات الوطنية الفلسطينية؟ ومثلما شهد التصعيد الذي أدى إلى “حارس الأسوار”، فبوسع هذه الاعتبارات والمشاعر المرتبطة بها أن تتغلب على اعتبارات عملية تتعلق بالربح والخسارة، وتحدث احتجاجات وعنفاً وسفك دماء. إن وزن هذه الاعتبارات يتزايد أيضاً في أعقاب الفرضية السائدة في أوساط الجمهور الفلسطيني هذه الأيام في ضوء تغيير الإدارة في الولايات المتحدة بأن الحديث اليوم لا يجري عن سعي إلى تسوية تقوم في إطارها دولة فلسطينية مستقلة، بل عن حلول طارئة غايتها استمرار إدارة النزاع.

وبالفعل، تبلورت في الساحة الفلسطينية معارضة عنيدة لكل خطوة لا تكون جزءاً من استراتيجية سياسية واسعة. والأفكار الكثيرة التي طرحت وعرضت على الفلسطينيين في مجالات الاقتصاد والبنى التحتية، لا تستقبل كبديل عن المسيرة السياسية. فالخوف يزداد من تبني نهج إدارة النزاع في ظل التركيز على هذه المجالات من قبل إدارة بايدن. وبالفعل، تعد مؤسسة السلطة الفلسطينية في نظر كثير من الفلسطينيين كإنجاز وطني، ولكن كمرحلة أولية لدولة فلسطينية. وحتى حماس، التي عارضت اتفاقات أوسلو، ترى اليوم في السلطة مؤسسة يجب العمل على حفظها. فهل سيتمكن الفلسطينيون في اليوم التالي لأبو مازن من الاكتفاء بهذا المعقل الوحيد، أم سيحاولون الإثبات بأن بوسعهم أن يحققوا ما لم ينجح أبو مازن في تحقيقه، أي التقدم الملموس إلى الاستقلال؟

يبدو أن لا مفر من جهد، مرغوب فيه إسرائيلي – دولي، غايته منح الفلسطينيين أفقاً سياسياً وغرس الأمل في أوساطهم، وخلق ظروف لإعادة بناء الواقع الفلسطيني الداخلي ومنع عدم الاستقرار المحمل بالمخاطر في زمن تبادل الحكم في نهاية عهد أبو مازن.

 

بقلم: يوحنان تسوريف

نظرة عليا 24/8/2021



مقالات أخرى للكاتب

  • هل سيكون حزيران المقبل شهر استقالات قادة الأجهزة الأمنية؟  
  • هكذا نقل نتنياهو اليهود من "الوصايا العشر" إلى ضربات قصمت ظهر الدولة   
  • هل حققت إسرائيل هدفها بضربها راداراً للدفاع الجوي في أصفهان؟  





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي