من أجل عيون المدينة
2021-04-11
كرم نعمة
كرم نعمة

ليس بالحافلات الحمراء وحدها تقترن صورة لندن في ذهن العالم الخارجي، هناك صناديق الهواتف الحمراء المنصوبة في الشوارع كتماثيل تقاوم الزمن.

بقيت تلك الصناديق محتفظة بجماليتها رافضة التنازل عن تاريخها مع أن الهواتف المحمولة أنهت إلى حد ما الحاجة إليها. لكنها في النهاية جزء من شكل المدن ولا يمكن التفريط بها.

نتحدث عن الآلاف من الصناديق الموزعة في المدن البريطانية التي كانت في يوم ما حلا عاجلا لإجراء اتصالات هاتفية عاجلة وماسة. لكن الهواتف الأرضية فقدت أهميتها لسوء حظ تلك الصناديق الجميلة. فالهياكل الحمراء مصممة بطريقة تتسق مع روح المدن، ولم تفقد أهميتها بالنسبة لمن يفكرون دائما في إيجاد البدائل.

لقد وجدت لها وظائف أخرى وفق كل مدينة بعد أن تخلى الناس عنها. صندوق الهاتف القريب من منزلي تحول إلى مقهى صغيرة تثير شهية المارين. لقد وضعت في داخلها دوارق صغيرة ومغلاة كهربائية وأقداح ورقية مقواة وصارت تقدم المشروبات الساخنة للمارة. أجمل ما في المشهد أن بائع القهوة يقف خارج دكانه الذي لا يسع لغير معدات تحضير القهوة والشاي، وكأنه يجسد حكمة ت. أس إليوت عندما كان يقيس الزمن بملاعق القهوة والشاي.

كان مشهدا مريحا بالنسبة لي أن أرى وظيفة جديدة للصندوق الأحمر بعد أن تحول مكان الهاتف إلى إبريق قهوة ساخنة يلتقطه المارة في طريقهم.

المقهى خيار واحد من بين عدة خيارات تم فيها تغير وظيفة أكشاك الهواتف الموزعة في المدن البريطانية. بعضها يحتوي اليوم على أجهزة تتيح للمارة قياس نبض القلب في محاولة للاطمئنان. وضعت في داخل صندوق هاتف الأمس أجهزة سهلة الاستخدام لقياس ضربات القلب، وبعضها تحول إلى مكتبات صغيرة، ومدن أخرى أتاحت لرسامين عرض لوحاتهم فيها. نتحدث هنا عن 6600 صندوق هاتفي أرضي رفضت المدن البريطانية التفريط بها.

في كل ذلك كان الجهد وطريقة التفكير ينصبان على عدم إزالة تلك الصناديق التي بقيت رابضة في أماكنها عشرات السنين. من أجل ماذا؟ من أجل روح المدينة التي ترفض أن تتحول إلى أغلال من العقد الكونكريتي المصفد.

لذلك أرى في طريقة الحفاظ على مثل هذا الجزء الصغير من هيكل المدينة، درسا لمدن العالم الأخرى. فعلى الرغم من انتفاء الحاجة للهواتف الأرضية مع شيوع استخدام الموبايل، بقيت الصناديق محافظة على وجودها ولم يتم اقتلاعها كي لا تفقس عين المدينة.

بعد سنوات سيمر عاشقان من أمام هذا الصندوق الأحمر لشراء قدحين من القهوة ويبادر أحدهما بسؤال الآخر هل تعرف ماذا كان هذا الصندوق من قبل؟ لا أتخيل حينها سيبادر البائع بالإجابة، بل ينتظر ماذا يرد الآخر.


*كاتب عراقي مقيم في لندن

 



مقالات أخرى للكاتب

  • كم مليون ديوكوفيتش
  • الكذبة النبيلة
  • المشهد الكارثي للجوع مستمرّ





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي