الاحتجاجات العابرة للقارات في عالم مضطرب
2019-11-29
د. خطار أبودياب
د. خطار أبودياب

 

يغلي العالم منذ عدة شهور بحركات احتجاج تختلف في أسبابها ومساراتها، لكنها تلتقي في نقاطها المشتركة حول طلب الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ودول الحق والقانون. وإذا كان التفاوت الاقتصادي الحاد يمثل القاسم المشترك للاحتجاجات في أميركا اللاتينية، فإن الانتفاضات في العالم العربي والشرق الأوسط تتركز ضد نظم سياسية فاسدة أو متحكمة.

هكذا من بيروت وبغداد والجزائر والخرطوم وطهران إلى هونغ كونغ وسانتياغو وكوناكري وبراغ وباريس ومدن أخرى، ترتفع الأصوات والقبضات في زمن وسائل التواصل الاجتماعي وتصدع العولمة مع الرابحين والخاسرين منها.

ويكشف ذلك أزمة عميقة في تطور الرأسمالية وتراجع الديمقراطيات التمثيلية في مواجهة الأوتوقراطيات أو مجموعات الضغط المتنوعة.

 في الإجمال، ترتبط نقاط الاضطراب الحالية بالحكومات الأسوأ أداء. لذا مع تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، تصبح مشكلة عدم المساواة الاجتماعية أكثر انتشارا والعالم أكثر اضطراباً خلال حقبة إعادة تشكيل النظام الدولي.

 ويفرض ذلك معالجات وأجوبة عبر تصحيح مسار العولمة وتطور كل بلد وكل مجموعة إقليمية واقتصادية على حدة.

لا بد للمراقب أن يلاحظ تزامن الاحتجاجات مع الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989، الذي سبق إعادة توحيد ألمانيا وتفكك الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة.

في ذاك اليوم كانت المفاجأة مدوية ومرة أخرى يكون التاريخ نتاج ما هو غير متوقع. لكن لم ينته التاريخ كما تصور بعضهم، ولم تكرس غلبة قوة عظمى وحيدة، بل بدأت دورات جديدة من الصراع الدولي ومن التغييرات والتحولات والاحتجاجات التي تعصف بعالم اليوم.

يتم التساؤل عن أحقية ومشروعية الغضب لأسباب واهية أو هامشية بنظر البعض، لكنها كانت المحرك والمؤجج للغضب.

اختلفت الشرارة التي أطلقت الاحتجاجات بين مكان وآخر، مثل رفض المتظاهرين في هونغ كونغ تسليم المطلوبين إلى السلطة المركزية في الصين، أو رفض رفع سعر بطاقات قطار الأنفاق (المترو) وتعريفة الكهرباء في تشيلي، أو فرض رسم على المكالمات عبر تطبيق الواتس آب في لبنان.

انطلق الاحتجاج من الجزائر والخرطوم في الربيع الماضي إلى كوناكري وبراغ هذا الخريف، ضد رأس السلطة أو سوء الممارسة.

وهناك أيضا شعور بالإقصاء من أي مشاركة مهمة في عملية صناعة القرار، إذ تشعر شعوب عديدة بأن لا أحد يهتم بها، وممثلوها السياسيون مشغولون بإثراء أنفسهم.

واللافت أن مناخ التمرد المنتشر عبر القارات أنتج انتفاضات شعبية عفوية تختلف عن الانتفاضات الكلاسيكية من أمثال الحركات العمالية والنقابية. ويجمع بين هذه الاحتجاجات نوع من “أممية الثورة الرقمية” حيث يصعب رصد القيادات ولجان تنسيق التحركات.

ويبدو الهاتف النقال القائد الخفي للانتفاض عبر العالم. ومن الخصائص المشتركة استخدام شعارات ورموز مشتركة تستوعبها الطبقتان الفقيرة والمتوسطة اللتان تحملان لواء التغيير.

 وفي هذا الإطار لا بد من الإشارة إلى نهاية حقبة ازدهار اقتصادي دامت خمسة عشر عاماً في أميركا اللاتينية، التي تفتقد النهم الصيني لشراء موادها الأولية بعد التراجع في الاقتصاد الصيني.

ومن هنا نرى تعاظم حركات الاحتجاج في هذا الجزء من العالم بقيادة الطبقة الوسطى، التي كانت تستفيد من العولمة وأخذت تخسر مكاسبها.

أما في العالم العربي، فنرى العلم الوطني من بيروت إلى بغداد والجزائر بمثابة القاسم المشترك بين محتجين يضعون الأيديولوجيا جانباً ويسعون لإعادة إحياء وطنيات خاصة في كل بلد بعيداً عن العصبيات وعن الطائفية وهذا يشكل مكسباً للفكرة المدنية المواطنية.

في الموجة الثالثة للحراك العربي التغييري نستنتج خيبة الأمل من فشل الدول بعد الاستقلال وتحولها إلى سلطات لا أكثر، وربما تحين الفرصة الآن لبناء دول على أساس المواطنة بعيداً عن العصبية والطائفية والزبانية. ورغم أن الجزائر من الدول التي تحظى بدرجة جيدة من المساواة في توزيع الثروة بين المواطنين، بحسب بيانات البنك الدولي، تتواصل المظاهرات في البلاد منذ فبراير الماضي. ويدور اختبار القوة حول إجراء الانتخابات الرئاسية حيث تسعى السلطات لاحتواء المطالبة بتغيير النظام.

أما في لبنان والعراق، فيلاحظ برانكو ميلانوفيتش، الخبير السابق في البنك الدولي، أن منظومتهما السياسية نشأت نتيجة حرب أو صراع أهلي وتقاسم لكعكة السلطة حسب المحاصصة. ويقول ميلانوفيتش إن “الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها هذه النخب الفاسدة البقاء هي تشريع النهب عبر تحالفات داخلية وخارجية”.

من ناحية أكثر شمولاً، يرسخ الانطباع عن تلاقي الاحتجاجات وتقاطعها من جنوب أميركا إلى آسيا وأفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. لكن هذه المشهدية ليست نادرة في التاريخ. والمثال على ذلك أنه في القرن الثامن عشر ما بين 1770 و1790 اندلعت على التوالي الثورة الأميركية والثورة الفرنسية وثورة هايتي والكاريبي.

الجديد في انتفاضات هذه المرحلة أنها تصوب على الجانب الاقتصادي والاجتماعي وفي الخلفية مشكلة التمثيل والممارسة الديمقراطية. العالم يتغير إذن وحتى لا تتحول الحركات السلمية إلى عنف مدني وحروب أهلية وثورات مضادة، أو تصبح من مسارح الحرب الباردة الجديدة (حالة هونغ كونغ بين الصين والولايات المتحدة) أو من مواجهات مخاض إعادة تركيب الشرق الأوسط (في العراق ولبنان) لا بد من حلول منطقية وتسويات شجاعة وتغيير في المناهج والممارسة.

لكن المقلق يتمثل في صعود الأنظمة السلطوية والأوتوقراطية على صعيد القوى الكبرى والوسطى، وتعمق المشكلة مع التطور السياسي الحالي في الولايات المتحدة وصعود نزعة الانعزال بعد مشاكل نهج الهيمنة. أما داخل ألمانيا كما في أوروبا فقد نشأت جدران جديدة بدل جدار برلين، حيث لم تنجح التنمية في إزالة الفوارق بين غرب ألمانيا وشرقها، حيث تنمو هناك نازية جديدة تذكر بسنوات صعود الفاشية قبل الحرب العالمية الثانية.

وتبرز الجدران بين القارة القديمة وكل من أفريقيا والشرق الأوسط، إلى جانب صعود الشعبوية في الداخل، وكأنها نوع من التوتاليتارية والسلطوية الجديدة التي تخلف الشيوعية. ومن هنا تبرز انتفاضة هونغ كونغ على خاصرة العملاق الصيني وتستمر الانتفاضات العابرة للقارات مما يعني ان نداءات الديمقراطية وتحقيق إنسانية الإنسان وحقوقه (فرداً وجماعات) لا تزال محركات الشعوب.

هكذا لم يتمكن صعود الأنظمة الأوتوقراطية والسلطوية وتصدع العولمة والانحرافات وصراع الثقافات والحضارات، من ضرب تطلعات الشعوب إلى قيم حقوق الإنسان والمساواة والحرية والإخاء.

 

  • أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك - باريس


مقالات أخرى للكاتب

  • مستقبل النظام العالمي برسم قمة بايدن – بوتين الأولى
  • فرنسا - إيران: مسلسل العلاقات المتعرّجة
  • طرابلس مختبر تفاقم الأزمات اللبنانية





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي