الهند تتقرب من بنغلاديش لقطع الطريق على الصين
2020-10-28
عبدالله المدني
عبدالله المدني

منذ قيام بنغلاديش ككيان منفصل عن الدولة الباكستانية في عام 1971 وعلاقاتها مع جارتها الهندية الكبيرة في صعود ونزول بحسب الحزب الحاكم في دكا. فتارة تتميز هذه العلاقات بالحرارة وتارة أخرى بالفتور، علمًا بأنه لولا الدور الحازم للهند في الحرب البنغلاديشية ــ الباكستانية لما قامت بنغلاديش أصلاً كدولة مستقلة من بعد سنوات طويلة كانت فيها مجرد جناح شرقي مهمش لباكستان. وكان الملاحظ دومًا في هذا السياق أن دكا كلما ابتعدت عن نيودلهي اقتربت من بكين منافسة الأخيرة على النفوذ في جنوب آسيا والمحيط الهندي في عملية مناكفة وابتزاز واضحة.
اليوم يبدو جليًا أن نيودلهي، في محاولة منها لإغلاق الطريق أمام بكين لجهة توسيع نفوذها في بنغلاديش، قد أفاقت على حقيقة أن ترك علاقاتها مع الأخيرة دون إعادة الدفء إليها سوف يؤدي إلى مراهنة الأخيرة كليًا على الصين التي لا تخفي طموحاتها في بناء نفوذ استراتيجي لها في الدول المحيطة بالهند من خلال ضخ المساعدات المتنوعة على نحو ما فعله الصينيون بنجاح حتى الآن في باكستان وميانمار وسريلانكا، بمعنى أن حكومة رئيس الوزراء الهندي رانيدرا مودي قررت تجاوز الملفات المعيقة لتقارب البلدين من تلك التي لها علاقة بالحدود والهجرة والعمالة والمياه، كسبا لثقة وصداقة الحكومة البنغلاديشية الحالية برئاسة الشيخة حسينة واجد، التي تحكم منذ عام 2009. هذا علمًا بأن هذه الملفات كانت تطفو على السطح من وقت إلى آخر مسببة تخريب علاقات البلدين الثنائية، وتحديدًا ملف هجرة العمالة البنغلاديشية المسلمة غير الشرعية من بلادهم إلى ولاية آسام، وهو ملف لطالما أثاره الناشطون والسياسيون المتطرفون من أعضاء حزب بهارتيا جاناتا الحاكم في نيودلهي لأغراض انتخابية. يلي هذا الملف في الأهمية ملف نهر «تيستا» المشترك بين البلدين والذي يبلغ طوله نحو 414 كيلومترا، والذي كان سببا في خلافات عميقة منذ عام 1947 ولاسيما في حالات حدوث فيضانات خلال مواسم الأمطار الغزيرة المعروفة بـ «المونسون»، حيث اشتكت دكا مرارًا من قيام الهنود ببناء سدود على النهر لتوليد الطاقة الكهربائية وتجميع المياه لأغراض الري في ولاية البنغال الغربية.
فخلال الأشهر القليلة الماضية لوحظ قيام نيودلهي بسلسلة من المبادرات تجاه جارتها الشرقية تمثلت في تنشيط التجارة البينية والتجارة العابرة بين البلدين. فعلى سبيل المثال بادرت الهند بتسيير قاطرات حاملة بالديزل ومختلف السلع لمواجهة احتياجات بنغلاديش الملحة من الوقود والبضائع المتنوعة التي حال دون وصولها تقادم السكك الحديدية البنغلاديشية وعطبها المتكرر وعدم قدرة حكومة دكا على تجديدها. وفي الوقت نفسه أرسلت الهند إليها نحو 55 قطارًا محملاً بنحو 125 ألف طن من البصل (المادة الأساسية في وجبات عشرات الملايين من البنغلاديشيين)، حيث تعتبر الهند من أكبري مصدري البصل على مستوى العالم، ومصدرًا لنسبة 75 بالمائة من واردات بنغلاديش من هذه السلعة الغذائية، كما أرسلت قطارًا خاصًا من ولاية غوجرات إلى دكا (تبعدان عن بعضهما البعض مسافة 1370 كيلومترا) محملاً بنحو 400 طن من الفلفل الأحمر وهو أيضًا سلعة غذائية لا يستغني البنغلاديشيون عنها في طعامهم اليومي. علاوة على ذلك، عملت على تنشيط حركة الانتقال ما بين البلدين بزيادة عدد رحلات السكك الحديدية اليومية.

المشهد الآخر للمبادرة الهندية حيال جارتها الشرقية تجسدت في الاتفاق مع حكومة الشيخة حسين واجد في شهر يوليو المنصرم على أن تستخدم الهند ميناء شيتاغونغ البنغلاديشي، الذي كان لزمن طويل محظ أنظار الصينيين، لإيصال البضائع والسلع المختلفة إلى ولايات الهند الشمالية الشرقية مثل ولاية تريبورا، حيث إن التضاريس الجبلية والمسافات البعيدة تحول دون تزويد تلك الولايات بما تحتاجه من خلال المواني الهندية المعروفة. وفي الوقت نفسه فتحت دكا ميناء مونغلا البنغلاديشي القريب من حدودها مع الهند لمساعدة الأخيرة في اختصار عملية نقل البضائع الهندية من ميناء كلكتا في ولاية البنغال الغربية إلى ولاية تريبورا (تبعدان عن بعضهما البعض بمسافة 1650 كيلومترًا) وأخواتها بنحو 500 كيلومتر. وهذه البادرة البنغلاديشية، من جهة أخرى، يمكن أن تساعد دولاً أخرى مستوردة للمنتج الهندي مثل ميانمار وبوتان ونيبال.
على الرغم من كل هذه المبادرات الهندية، إلا أن مجاميع كبيرة من الطلبة والناشطين في بنغلاديش تنظر بعين الريب والشك تجاه الهند من منطلقات إيديولوجية بحتة، خصوصًا وأن هناك من يغذي هذا المنحى ممثلاً في تيار الإسلامي السياسي المتطرف ذي الجذور العميقة في البلاد منذ أن كانت جزءًا من باكستان محمد علي جناح، خصوصًا بعد قيام نيودلهي بإقرار قانون جديد للجنسية في نهاية العام 2019 يتضمن منح الجنسية الهندية للمضطهدين دينيًا من غير المسلمين من أولئك النازحين إلى الهند من باكستان وأفغانستان. ولعل أوضح دليل هو المظاهرات التي انطلقت في بنغلاديش بمجرد العلم بقرب زيارة رئيس الحكومة الهندي مودي إلى دكا في مارس المنصرم للمشاركة في احتفالات مئوية أبو الاستقلال الشيخ مجيب الرحمن والد الشيخة حسينة واجد، وهي الزيارة التي تمّ تأجيلها بسبب تداعيات انتشار جائحة (كوفيد 19).
أما الصين فقد استغلت شكوك البنغلاديشيين تجاه الهند لصالحها، دافعة بالمزيد من استثماراتها باتجاه بنغلاديش لبناء المزيد من الطرق والموانئ والبنى التحتية المتنوعة. وفي الوقت نفسه ألغت الرسوم الجمركية على نحو 97% من وارداتها من السلع البنغلاديشية المنشأ، الأمر الذي ساهم في تضييق فجوة العجز التجاري في المبادلات التجارية التي ظلت طويلاً لصالح الصين. المثير في هذا السياق هو أن باكستان، حليفة الصين الاستراتيجية، دخلت على الخط، محرضة بنغلاديش على العمل مع الصين بدلاً من الهند، ومبدية استعدادها لتسهيل ودعم أي اتفاقات صينية ــ بنغلاديشية.
والحال أن هناك صراعًا متفاقمًا في جنوب آسيا للاستفراد ببنغلاديش ومصادرة قرارها السياسي، خصوصًا وأن اقتصادها حقق نموًا بلغت نسبته في العام 2019 نحو 8% لولا وباء كورونا الذي تسبب في هبوطها إلى النصف تقريبًا في العام الجاري.
والحقيقة أنه إذا أرادت نيودلهي استرجاع بعضًا مما خسرته في بنغلاديش صاحبة الاقتصاد المقدر قيمته بمبلغ 316 بليون دولار، والمحتاج إلى المزيد من الطاقة في السنوات القادمة، فعليها أن تبادر إلى تقديم استثمارات مغرية لجاراتها، كأن تلبي معظم حاجتها من الطاقة الكهربائية، وأن تسعى لإيجاد حل مرض لتقسيم مياه نهر تيستا المشترك، وأن تواجه بذكاء مخططات الصين لمصادرة قرار دكا من خلال مشروع الطريق والحزام الصيني الخبيث.

-المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع



مقالات أخرى للكاتب

  • غادة الـمطيري.. عالـمة سخّـرت نفسها للاكتشـافات





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي