أوجه شبه واختلاف بين احتجاجات جامعة كولومبيا والستينيات
2024-05-08
ماري ديجيفسكي
ماري ديجيفسكي

فيما كنا بصدد الدخول في بداية أيام شهر مايو (أيار) بعد انتهاء أبريل (نيسان) كانت قوات الشرطة الأميركية قد دخلت حرم جامعتين أميركيتين رئيستين واحدة على كل ساحل من سواحل الولايات المتحدة، وقامت بتفريق المئات من الطلاب. في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، إذ كان الطلاب يقومون ــ باحتجاجات مساندة للفلسطينيين في غزة ــ والتي كان معظمها قد جرى بصورة مسالمة، قد تم فض عملية احتلالهم لمبنى هاملتون التاريخي، ووضع حد له، ولو لم يقتلع مخيمهم المقام على حرم الجامعة. والقصة كانت مختلفة في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس UCLA، إذ اندلعت عمليات تدافع، في البداية بين مجموعات مؤيدة للفلسطينيين، ومجموعات مؤيدة لإسرائيل من بين الطلاب أنفسهم، وفي وقت لاحق تطورت لتتحول إلى مواجهات مع الشرطة.

بالنسبة لكثير من الأميركيين ــ ولا يقتصر ذلك فقط على الأميركيين ــ كانت تلك الاحتجاجات وطريقة العمل على تفريقها، من قبل سلاسل متراصة من "عناصر شرطة" يتحلون بمهارة عالية، يمكن اعتباره أكثر من مجرد حدث عابر وقع اليوم، وانتهى في الغد من شريط الأخبار. فتلك الاحتجاجات وعملية فضها كانت قد استرجعت ذكريات، واستدعت القيام بفحص أوجه الشبه [والاختلاف]، مع ما يمكن اعتباره اليوم احتجاجات الطلاب الأسطورية في نهاية الستينيات من القرن الماضي ومطلع السبعينيات. وكي تبرهن أوجه الشبه تلك، قامت عديد من المؤسسات الإعلامية ــ خصوصا تلك الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية، وأيضاً المؤسسات الإعلامية في أوروبا ــ في تضمين صورها التي نقلت أحداث أيامنا هذه، ذات الألوان البهية الألوان المصورة بواسطة الهواتف النقالة، بمقاطع من الصور غير المتبلورة بالأبيض والأسود التي تعود إلى تلك الحقبة.

حتى من يعدون أصغر سناً من أن يتذكروا [ما كان قد جرى إبان الاحتجاجات الطلابية في الستينيات]، إذا لم نقل أنهم كانوا قد شاركوا في تلك الاحتجاجات ــ فإن الغالبية العظمى من الأميركيين ــ لا بد أنهم كانوا قد تناهى إليهم ما جرى في الماضي، من أهلهم وأجدادهم، إضافة إلى ما استقوه من الصور التاريخية المعروضة بفخر في الجامعات التي كانت مهتمة بتلك القضايا. فالاحتجاجات التي كانت قد جرت في حرم الجامعات، والاعتصامات التي أقيمت على أرضها، قبل أكثر من 50 عاماً، كان ينظر إليها على أنها أيام مجيدة، ينظر إليها من شاركوا فيها في حينه إضافة إلى المؤرخين اليوم، على أنها كانت تحد محق لسوء استخدام سلطة الدولة ــ من بينها الحرب في فيتنام، وعملية التجنيد العسكري [الإلزامية] ــ ومسألة غياب العدالة الاجتماعية المتجذرة، والتي كانت قد حكمت على الأميركيين من أصول أفريقية باحتلال مرتبة مواطن من الدرجة الثانية.

إن تلك الاحتجاجات حازت أبطالها وشهداؤها: مثل الطلاب الأربعة الذين سقطوا على أيد الحرس الوطني في جامعة كنت في ولاية أوهايو Kent State University، في العام 1970، في ظروف لا تزال هناك خلافات حولها حتى يومنا هذا. كما أنه، وحتى في الأوساط الجامعية، لا يتطلب الأمر كثيراً من الجهد لبعث تلك الذكريات، منها الحقيقي ومنها المتخيل أيضاً، في بلد بدا لكثر في تلك الفترة، بأنه كان على مشارف تفاقم الاضطرابات. وما هو أكثر من ذلك، إن حجم احتجاجات يومنا هذا المؤيدة للفلسطينيين إلى حد كبير، والتي عبرت عنها المسيرات، والاعتصامات، وإقامة المخيمات الاحتجاجية، واحتلال المباني الأكاديمية في كافة أنحاء الولايات المتحدة، يمكنها بالفعل أن تقترب من حيث الشبه، بما كان قد اختبر في تلك الحقبة الماضية.

يرى البعض أن الاختلاف الحاد حول ما يمكن أن يشكل حرية التعبير، و"حركة مي تو" #MeToo movement، والترمبية، والكثير أيضاً من القضايا المتنوعة التي تتشكل منها ما يعرف اليوم بالحروب الثقافية، يشير إلى أن الولايات المتحدة هي اليوم في قبضة حمى القوى الفلسفية والسياسية الخطرة نفسها التي كانت سائدة في حقبة الستينيات. الخطوة المقبلة بحسب ما قد يشي به النص، قد يكون اندلاع العنف ــ وهو السياق غير المعلن إلى حد كبير، الذي يطرحه الفيلم السينمائي الناجح في شباك التذاكر في الولايات المتحدة، وهو بعنوان "الحرب الأهلية" Civil War، والذي بدأ عرضه للتو في دور السينما في المملكة المتحدة.

قبل أن تدعي الحركة الاحتجاجات الطلابية الأخيرة في الولايات المتحدة أنها تحمل راية الحركات المطلبية السابقة مثل احتجاجات حرب فيتنام، واحتجاجات الحقوق المدنية، والتي تعود إلى ما قبل نصف قرن من الزمن، من المفيد أن نقوم بطرح السؤال عن أوجه الشبه الممكنة [بين الاحتجاجات الماضية واحتجاجات اليوم]. وفي هذا السياق الجواب أنه ليس هناك كثير من أوجه التشابه ــ كما كان أفاد من كانوا حقيقة هناك (وما زالوا يتذكرون أنهم كانوا بالفعل قد شهدوا على تلك الأحداث الماضية). وأنا أتفق مع تلك الخلاصة، بوصفي كنت واحدة من أولئك الأصغر سناً الذين لم يكن في إمكانهم المشاركة في تلك الأحداث، ولكن كان لدي أقرباء كانوا قد شاركوا بما جرى.

فهناك اختلاف جوهري واحد، في الأقل حتى الآن، وهو نسبة عدد المشاركين. على رغم أن الصور التي قامت ببثها شاشات التلفزيون قد تبرز بأن حجم المشاركين كان ضخماً، فإن الأعداد الحقيقية الفعلية للمشاركين في تلك الاحتجاجات لا تزال صغيرة بالمقارنة مع ما خلفته [حركات الاحتجاج التي جرت في الماضي]، من حال من عدم الاستقرار التي عمت الحيز الاجتماعي والأكاديمي في نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات من القرن الماضي.

الوجه الآخر هو مدى استعداد بعض المؤسسات في الأقل لاستدعاء تدخل الشرطة. الجامعات بصورة عامة في الولايات المتحدة الأميركية، وعلى وجه الخصوص يفتخرون بأنفسهم على أنهم يقومون بضبط أمنهم بنفسهم. رئيسة جامعة كولومبيا مينوش شفيق ــ والتي وبصورة عرضية، كانت قد تسلمت المنصب في عام 2022، بعد خمس سنوات من ترؤسها جامعة لندن للدراسات الاقتصادية London School of Economics، وقبل ذلك كانت مينوش قد أمضت فترة كنائبة لرئيس حاكم بنك إنجلترا المركزي ــ وهي قامت باستدعاء الشرطة في اليوم الثاني على بدء ظهور أول مخيم في الحرم الجامعي، معللة الاستدعاء بما وصفته بأنه "خطر حقيقي وقائم قد يعرقل العمل الفعلي للجامعة". وكانت قد بدت وكأنها لم تشعر بأي تأنيب للضمير ولو صغير بخصوص تهديد المحتجين بالعمل على فصلهم أو طردهم. وأكثر من ذلك، وفي جامعة كولومبيا قام غالب الطلاب بفض تجمعهم الاحتجاجي من دون ضجة تذكر ــ على رغم أن الأمر لم يبد كذلك في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس UCLA ــ لكنهم عادوا واستأنفوا عمل مخيمهم الاحتجاجي. تلك التهديدات بإحالتهم إلى مجلس تأديبي، كانت لتكون من دون أي فائدة تذكر خلال الاحتجاجات السابقة، في وقت كانت خلاله عديد من الجامعات في حال من الثورة المفتوحة.

لكن، وربما كان الاختلاف الأعظم يكمن في أن احتجاجات الستينيات من القرن الماضي، كانت متعلقة بقضايا تؤثر في الطلاب بصورة مباشرة، وكانت تتعلق بالسياسات المتبعة المتعلقة بالنسيج الاجتماعي الخاص ببلدهم. وكانت تتعلق بحرب فيتنام سواء كان مصيباً أم لا، ومسألة التجنيد الإلزامي، ومسائل غياب أبسط الحقوق المدنية لكثير من الأميركيين السود. إن القضايا كانت في الوقت نفسه مختلفة ومترابطة، وكانت تزيد من حدة توسع الحركة الاحتجاجية بصورة حقيقية، والتي عكست خلافاً كذلك على مستوى الأجيال، من خلال دخول الأبناء الكبار في مواجهات مع أهاليهم.

القليل من ذلك كله ينطبق على أحداث هذه الأيام. إنه من الصعب أن نرى معاناة الفلسطينيين في غزة كمسألة تهم مباشرة الولايات المتحدة والطلاب الآخرين. إن الاحتجاجات قد ينظر إليها في أفضل الأحوال بوصفها نابعة من شعور غيرة على الفلسطينيين، وبوصفها انعكاس عالم معولم، إذ الاتصالات السريعة ووسائل التواصل الاجتماعي تشجع الناس على الارتباط بقضايا بعيدة من حدودهم. هل يجعل ذلك من الأمر أنه يستحق ثناء أكبر أو أقل، من خلال إمكانية وضع الطلاب مستقبلهم على المحك، من أجل قضية يمكن اعتبارها قضيتهم من خلال الاعتبار بأنه يمكن النظر إليها على أنها قضية عالمية جامعة؟

سأترك هذا السؤال معلقاً، وسأكتفي بالملاحظة أنه حتى تاريخ هجمات السابع من أكتوبر، كنت قد حضرت مناسبات عدة، إذ لم يكن أي من الأشخاص دون سن الـ40 يظهرون أي معرفة محددة، أو أي اهتمام بالقضية الفلسطينية، وكان اسم ياسر عرفات لا يعني أي شيء يذكر تقريباً لأي كان. أما بالنسبة إلى التهديد الإرهابي الذي كانت تمثله منظمة التحرير الفلسطينية PLO، فكان المرء ليعاني في سعيه لإيجاد أي كان من جيل الطلاب، ناهيك بأولئك الذي لديهم خلفية فلسطينية، أو ارتباط أوسع بالشرق الأوسط، ممن كانوا يعرفون أي شيء عن الموضوع. كما أن ذلك لم يتغير بالضرورة. إن ما كان الناس حول العالم الغربي قد قاموا بالتركيز عليه هو ما يجري حالياً للفلسطينيين، وهكذا أصبحت قضيتهم، وبصورة من الصور قضية غياب العدالة بالنسبة إلى الكثيرين. إن الصعوبة التي تواجهها المؤسسات في الولايات المتحدة، هي أن هذه القضية تتسبب بتعارض مع الادعاء الذي يؤمن به اليهود حيال أمنهم وحيال دولتهم.

إن النزاع في الشرق الأوسط، والذي تنقل مجرياته إلى كافة أنحاء العالم بصورة حية ومباشرة، يكرر في أماكن أخرى من خلال الاشتباكات في الجامعات (مثل ما جرى في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس UCLA) وأماكن أخرى، وهي تترافق مع اتهامات بالعداء للسامية ــ وهي محقة أحياناً، وغير محقة في أحيان أخرى. إن الجسم الطلابي، مثله مثل الرأي العام بصورة أوسع، يمكن أن يكون منقسماً على نفسه، مما يشكل معضلة للإدارات، والأساتذة، وأجهزة الأمن على حد سواء.

إذا كانت أوجه الشبه بين الأمس واليوم أقل مما قد تبدو عليه، فهو أمر يجعل من أوجه الشبه التي قد يمكن استخلاصها من النتائج التي تفضي إليها ــ على رغم أن التوازن بين ما قد يتم تحقيقه قد يكون معكوساً في هذه الحالة. في النهاية، ماذا حققت حركات الاحتجاج الطلابية التي اندلعت عام 1968 فعلياً؟

ربما شكلت الاحتجاجات عاملاً مساعداً [إيجابياً]، ولكنها لم تنجح في مفردها في إنهاء الحرب في فيتنام، والتي كانت لها خواتيمها المعقدة على أرض الواقع. كما أن تلك الاحتجاجات لم تجبر الرئيس الأميركي في حينه ريتشارد نيكسون على الاستقالة، والتي جاءت في النهاية نتيجة أفعاله هو. إن الأعمال التي قام بها الطلاب ربما كان من شأنها تدعيم حركة الدفاع عن الحقوق المدنية، لكن المسيرات والنتائج التي بلغتها كان يمكن لها أن تحدث من دون احتجاجات الطلاب. وإلى حد ما، إن تمرد الطلاب يبدو أنه كان مؤشراً إلى عمليات تغيير مجتمعية عميقة بدلاً من أن تكون عامل تغيير [السبب].

أما الاحتجاجات الحالية، فقد يمكن اعتبارها بالطريقة نفسها، كمؤشر إلى الحالة بدلاً من أنها قد تسببت فيها، وهي تنبئ بتغيير كبير في مواقف الرأي العام الأميركي. خلال الأشهر الأخيرة الماضية، لقد قام الرئيس جو بايدن في تعديل سياسة الولايات المتحدة المتعلقة بقطاع غزة إلى الحد الذي قام به في انتقاد إسرائيل، وقد يصعب اعتبار أنه قد قام بذلك من أجل إرضاء منتقدي سياساته في الخارج.

وإذا قمنا بالنظر إلى المسألة من خلال استعادة الأحداث الماضية، فإن احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية قد ينظر إليها على أنها تشكل سابقة في تحول تاريخي في سياسة الولايات المتحدة الأميركية حيال الشرق الأوسط. وقد يعود جزء منها إلى البث المباشر للأخبار عن الحرب في غزة، ويعود جزء آخر منها إلى تعاظم عددهم، على رغم من كون الزيادة صغيرة في عدد المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك قد تعود إلى تراجع في نفوذ وتأثير جماعات الضغط الأميركية الإسرائيلية.

إنه تغيير قد يمكن النظر إليه بوصفه في آنٍ واحد تغييراً على مستوى الأجيال، والفلسفة [القبول بقيود على إسرائيل وإدانة انتهاك حقوق الإنسان] ــ وهو تحول أينعت بذوره على مستوى الجامعات وأسهم في بروزه.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية-



مقالات أخرى للكاتب

  • حرب غزة: محطة مفصلية في مستقبل بايدن ونتنياهو السياسي
  • القتال بين إيران وإسرائيل لن يتوقف لكن حربا موسعة جرى تفاديها
  • 3 أسئلة ملحة قاد إليها الهجوم الإيراني على إسرائيل






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي