سعيد حبيش ..سطورقصيرة من حياة طويلة لاسطورة عاشت بيننا !!

خاص - الأمة برس
2023-08-21

الحاج المرحوم سعيد ناصر حبيش (وسط الصورة) وأبا يونس يمينها والمرحوم الشيخ أحمد سعيد حبيش (صاحب النظارات) على يسار الصورة (الأمة برس)كتب : ابويونس - عبدالله سعيد حبيش


ابتدأ العمر ثم امتدّ وانقضى ما بين 1906م حتى 20 / 8 / 1995م
مرّت بالأمس " مسرعة " الذكرى الثامنة والعشرون لوفاة والدي رحمه الله ، توّجب علي فيها أن اكتب ولو خاطرة تلمّ شتات الذكريات معه منذ طفولتي وحتى مغادرته لدار الحياة الدنيا ، ولكن حين يستدعي الإنسان الذكريات سيحرص ان يبرز فيها ما كان جميلاً فيحسنّه ويخفي فيها كان مؤلماً فيدثّره ، الا جمائل الذكريات مع الأب فهي ذكريات كلها جميلة
تتدفق فيها العاطفة الجيّاشة والحنان المرهف والعطف الفيّاض ، وهذا ليس من مستغرب القول فيه ، فالأب هو رمز الرحمة والعاطفة والحنان والحب والمودة كما ان ذلك في الأم سواءً بسواء
*واذا رحمت فأنت أمٌ أو أبٌ*
*هذان في الدنيا هما الرحماء*
قد يكتب الإنسان عن ابيه وامه في حياتهما ، فذلك وطأته سهلة ويسيرة ، أما أن يكتب عنهما بعد وفاة أحدهما أو كلاهما فذلك مبعث الحزن ومنشأه ،حين شرعت في الكتابة ، انتابني شعور يقول هوّن عليك ، حاولت فيها أن احبس الدمع عن المئآقي فلم استطع لها طولاً ، فإذا بها تنهال كالغيث في مجراه ،

يعتبر الوالد سعيد حبيش رحمة الله تغشاه من أوائل اليمنيين المهاجرين الذين غادروا ارض اليمن في بدايات القرن الماضي وتحديداً في عام 1918م ، وهذا يؤكد لنا أنّ الوالد لم يكن ميلاده هو المدوّن في جواز سفره 1906 وانّما قبل ذلك ، باعتبار انه من الصعب أن يغادر مهاجراً عبر البحار والمحيطات وعمره إثنا عشرعاماً ،

كان الأوائل من المهاجرين يواجهون الصعاب الثقال والمتاعب الجمّة في هجرتهم سواءّ من الناحية القانونية أو الحياة المعيشية ، فلم تكن الأحوال والظروف قد تطورت في ذلك الزمان مثلما تراها اليوم من السهولة واليسر ،،

إمتدت إقامته في الولايات المتحدة الاميركية مذ أن بدأت في عام 1918م حتى عام 1957م أي ما يقارب تسعٌ وثلاثون عاماً
حينها يعتبر قد قارب الستين عاماً من عمره قد تنقص أو تزيد منه قليلا ،،

الوالد في ذلك الوقت لم يكن متزوجاً ولم يظهر عليه الرغبة في الزواج ، وعلمت أن عمتي هي من رغّبته وحثت عليه بضرورة أن يتزوج محبة في أن ترى أولاده ، استجاب الوالد لذلك الإلحاح وقبل بالزواج من مرغوبته الوالدة التي كانت تصغره بأكثر من اربعين عاماً ،

ذلك الأمد الطويل في عمر الوالد الذي عاشه عازباً غير متزوجاً ، جعل مظهر الوالد يبدو أصغر من عمره الحقيقي بكثير ، ومنحه قوة ونشاطاً ونظارة ، لأنّ تحمل المسؤولية وحمل همومها ومتطلباتها لا شك انها تأخذ من صحة الإنسان وجسده وعقله،،

من عام 1959م وحتى 1975م كان الوالد قد رزقه الله ثلاثة من البنين وثلاث من البنات هم جملة من ابقاهم الله له من الذرية .

في حكايات المهاجرين القدامى حين يسردون قصصهم وما لاقوه من المتاعب وسوء المعاملة وضنك العيش ، وهموم الغربة ، وندرة الأعمال ، جعلتهم يعيشون ظلمات بعضها فوق بعض ، كانوا يترقبون الشهور والسنوات حتى تنفرج عليهم ليجدوا عملاً يترزقون بسببه ، حينها كانت مصانع السيارت " فورد FORD “ ناشئة ومبتدئة ولا تحتاج الى الأعداد الهائلة من العمّال كما هي عليها اليوم .

كان المغتربون ينقطعون عن أهاليهم السنوات الطوال ذوات العدد لا يجدون وسيلة للتواصل معهم الا عبر الرسائل التي يحملها المسافر من زملائهم ، بل حدا بالبعض من طول مدة الإنقطاع ان يظنوا في موته أو هلاكه

منذ عاد الوالد من هجرته الطويلة في الولايات المتحدة الامريكية في عام 1957م استقر به المقام في مدينة جبن وطاب له المكان واستطاب الزمان كذلك ، وبدأ يفكر بالعودة الى امريكا ، لا للإقامة والهجرة مرة أخرى ، وإنما ليبيع بعض ممتلكاته العقارية راغباً في أن يستعيض عنها بالأستثمار في بلده ومنبت جسده ،

حقق الوالد رغبته فبعد رجوعه من امريكا التي استمر فيها قرابة اربع سنوات ، باع فيها اغلب ما كان يملك من العقارات ، وصل الى مدينة عدن فاشترى اثنتين من مركبات الحِراثة " الحرّاثات " آملاً أن يساهما في التنمية الزراعية لبلده ومؤملاً في رفع الإنتاج الزراعي الذي سيعمل على تحسين مستوى المعيشة لأغلب الناس

يسجل للوالد " رحمه الله " أنه كان من أحرص الناس على تقديم المعاملة لأبنائه واستخراج الجوازات الأميركية لكل منّا في بدايات مراحل الطفولة المبكرة ، ولم يكن يؤجل أو يتسوّف في ذلك اطلاقاً
بل كان يتجشم الصعاب ، ويتحمل الثقال - وهو الرجل الذي تجاوز الستين من عمره آنذاك -
كان يحمل كل مولودٍ منا طفلاً رضيعا ويسافر بنا الى عدن ، حينها كان السفر مضنياً وشاقاً ، حين كنا نُحْمل على ظهور الحمير حيناً وسيراً على الأقدام حيناً آخر ، من مدينة جبن مروراً بالجبال الشاهقة كجبل " نقيل الشيم " وغيره من جبال وهضاب وصولاً الى مدينة قعطبة ثم نُحمل في عربات وسيارات نقطع بها جبال الضالع والطرقات الوعرة في منطقة الحبيلين ، ونواجه بعدها وقبل الوصول الى محافظة لحج ، متعرجات وليّات " سيل وادي بنا " الذي قد يعيقك عن المسير لأيامٍ وليالٍ عديدة سيما اذا كان منسوب المياه عاليًا ، كل ذلك كان يبلغ بالوالد والوالدة مبلغاً كبيراً من التعب والنصب لا يجبرهم على الصبر في ذلك الا حب الولد والحرص على مصلحته ،،

في منتصف السبعينيات من القرن الماضي جثمت على المناطق الوسطى ومنها مديرية جبن ومدينتها الحاضرة ما كان يسمّى حينها " الجبهة الوطنية " التي لم يكن لها من اسمه نصيب لا في الوطنية ولا في الشهامة ولا في الدِين ولا في الخلق ،، وهي تعبث في طول البلاد وعرضها قتلاً وتشريداً ونهباً لأموال الناس ، كان للوالد نصيب من جرائمهم وحمقهم حين زرعوا الألغام للحراثات ، فانفجرت بمن فيها ، فاستشهد على اثر ذلك عدداً من الأبرياء من ابناء مدينة جبن الأطهار ، رحمهم الله ،

عاش والدي طيلة عمره مرتِباً لوقته ومنظماً لحياته كلها ، لا يخلط بين الأوقات في مأكله ومشربه ، كل وقتٍ من يومه لا يشغله الا بما ينفع حتى لا يبغي بعضه على بعض .
كان محافظاً لصلواته الخمس في المسجد يأتي الى الصلاة قبل وقتها ، ويقرأ ورده من القرآن من بعد صلاة المغرب حتى وقت صلاة العشاء ، وكان حريصاً جداً ان يصحبني لصلاة الفجر مذ كنت في العاشرة من عمري ، وينتظر حتى استكمل وضوئي في " بركة "العامرية حتى لو كان الماء بارداً ، وكذلك وكان يحرص ان يراني وراءه عقبَ كل صلاة واذا التفت ولم يرني فتلك مظنة وقوع العقوبة لي .

كان لوالدي مجموعة من الأصحاب يؤنسون بعضهم بعضاً ، يلتقون في المساجد حين صلاتهم ويجتمعون بعد صلاة العصر في
" مقيلهم " يتبادلون اطايب الكلِم ويناقشون مواضيعهم في هدوء وسكينة دونما ضجيج في الكلام والأسلوب ولا صخبٍ في الصوت ولا حدةٍ في المناقشة كلن الكلام ينداح فيما يجمعهم ولا يفرقهم وبما يؤلف بين قلوبهم لا فيما يؤلب الشحناء بينهم
نظراً لحصول الوالد على معاشه التقاعدي بعد مغادرته للولايات المتحدة ، استمر طيلة حياته منفقاً ومتصدقاً وباراً بأقاربه وواصلاً لأرحامه ، يتعسس الناس المعوزين الى اماكنهم ، يعطيهم بيد المحب ونفس المتصدق السخي يبغي الآخرة ويرجوا رحمة ربه ،

ساهم الوالد بجهده وماله في ادخال عدداً كبيراً من أبناء اليمن للولايات المتحدة تارة باستخراج التأشيرات لهم وتارة أخرى بتوفير الضمانات المطلوبة ضمن المتطلبات القانونية للتأشيرات ، وقد الفيتُ اناساً كثر يذكرون لي ما بذله والدي نحوهم ، منذ مجيئهم للولايات المتحدة ومساعدتهم في الحصول على الأعمال المناسبة ، وتقديم ما يلزم لهم حتى استقر بهم المقام .

تعرّض والدي لوعكة صحية خفيفة سافر على إثرها لجمهورية مصر العربية لتلقي العلاج اللازم ، وما لبث الا اياماً قلائل حتى وافته المنية مسلماً روحه الطاهرة لبارئها ومفوضا أمره لخالقة القدير الرحيم.
كنت تكلمت معه قبل وفاته بساعات ، فسألته عن صحته فأجابني بنبرة هادئة مصحوبة بحشرجة يصعب معها الكلام الا من كلمة قالها : *" انا بين يدي الله "* ادركت حينها أنْ قد أزفت الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة
ولم يمض الا خمسة وأربعون يوماً حتى لحق به ابنه الأكبر الشهيد احمد سعيد حبيش إثر حادثٍ أليم شكلّ فاجعة آلمت كل من عرفه ومن لم يعرفه ، ومن توافق الأقدار ، وبرغم الفترة الزمنية بين وفاتهما ، ضل الفراغ قائماً بجوار قبر الوالد ، وكأنه يستدعي ابنه البكر وفرحته الأولى ، أن يكون بجانبه في القبر كما كان بجواره في الدنيا لتستمر الصحبة بينهما حتى يبُعث من في القبور ويحصّل ما في الصدور

" يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون الا من اتى الله بقلبٍ سليم " 
19 / 8 / 2023م








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي