فيلم "الحبل" لألفريد هتشكوك: القتل لأجل المتعة والتفوق

2021-09-25

زيد خلدون جميل*

ينظر براندن (الممثل جون دال) إلى الكأس بإعجاب واضح قائلا، إنه الكأس الذي شرب منه ديفيد مشروبه الأخير، وعلينا الاحتفاظ به كذكرى تاريخية، ثم يقترح الاحتفال بشرب الشمبانيا، التي احتفظ بها في الثلاجة خصيصا لهذه المناسبة الاستثنائية، بينما يحدق زميله فيليب (الممثل فارلي جرينجر) به في ذهول لأنه شارك فيها.

يحدث كل هذا في المشهد الأول من فيلم «الحبل» Rope للمخرج الفريد هتشكوك، الذي عرض عام 1948 لكن ما هي هذه المناسبة الاستثنائية؟ لقد كانت قتلهما لصديقهما ديفيد في شقتهما، حيث قام براندن بالإمساك به بينما شد فيليب الحبل حول عنقه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

وبعد التأكد من وفاته وضعاه في صندوق ضخم من الطراز القديم، وما أن أغلق براندن غطاء الصندوق حتى انتابته نشوة أسكرته وكأنها نشوة جنسية.

وعلى عكس براندن فإن فيليب انتابته حالة من الرعب، ولم يصدق أنه اشترك في هذا العمل، وسرعان ما أبدى امتعاضه لرفيقه وشعوره بالخوف مما حدث ومنه شخصيا. ولفيليب الحق في الخوف من صديقه لأنه خير من يعرفه، إذ كان براندن ذو المظهر المؤدب واللطيف، يخفي شخصية بالغة القسوة والنرجسية، وحب السيطرة على الآخرين بشكل مرضي.

والاثنان شابان من الخريجين المتفوقين من إحدى اشهر الجامعات الأمريكية، ومن الطبقة الثرية والمتنفذة في مدينة نيويورك، ولم يكن ديفيد (الضحية) مختلفا عنهما، أما شقتهما، فهي شقة فخمة مطلة على منطقة مانهاتن.

كان براندن يشعر بمتعة وفخر لأنهما قاما بأول جريمة قتل كاملة من أجل القتل نفسه، معتبرا ذلك نوعا من الفن. وأخذ يلعب بالحبل الذي استعمل في الجريمة وكأنه لعبة أطفال، حيث كان نرجسيا إلى درجة مفرطة وإجرامية.

ولم يكن براندن ليكتفي بهذا، حيث أنه خطط لإقامة حفلة صغيرة في الشقة داعيا أقرب الناس إلى الضحية، وهم والده وعمته وخطيبته وصديقه المقرب، وكذلك روبرت (الممثل جيمس ستيوارت) الذي كان مشرفا على الشابين القاتلين وضحيتهما عندما كانوا في السنة الأخيرة من المدرسة الثانوية، وقد أصبح ناشرا مرموقا، ولذلك فقد كان يعرف الثلاثة معرفة وثيقة.

ولروبرت مكانة خاصة لدى براندن، لأنه كان قد تكلم مرارا في المدرسة عن حق الأشخاص المتفوقين، ذكاءً وعلما في حكم العالم وفي تقرير مصير من أهم أقل ذكاءً منهم. ولجعل الأمر اكثر متعة قرر براندن أن يوضع الطعام على الصندوق الحاوي على الجثة كي يتناوله الضيوف وقوفا، فهذه طريقة براندن السادية في الضحك على الجميع والتلاعب بمشاعرهم، إذ سياكل الجميع فوق جثة الضحية. حاول براندن أن يكون دقيقا كعادته في تنظيم الحفلة حتى إنه جلب الخادمة للمساعدة.

يصل المدعوون تباعا، وتبدأ الحفلة جيدا، ويقوم براندن بالتساؤل عن سبب عدم قدوم ديف (الضحية) وأيده الضيوف في ذلك، ولم يخف براندن استمتاعه بهذا، فقد وجد عدم معرفتهم بوجود ديفيد الميت في الغرفة نفسها ممتعا.

وتكلم روبرت وبراندن حول أحقية المتفوقين ذكاءً في تقرير مصير الآخرين، على الرغم من اعتراض والد الضحية الذي أبدى استهجانه لهذا المفهوم. وحاول براندن تشجيع صديق الضحية المقرب، للتقرب من خطيبته دون نجاح، حيث سبب ذلك انزعاج الفتاة، وفي هذه الأثناء كان روبرت يراقب الجميع، لاسيما صاحبي الشقة، حيث شعر بوجود خطأ ما، فغياب ديفيد أثار استغرابه، خاصة أنه وجد قبعته في الشقة، وأن تصرفات الشابين، لاسيما فيليب الذي بدا متوترا، لم تكن على ما يرام، وزادت الخادمة من شكوكه عندما أبدت دهشتها لاختيار براندن سطح الصندوق لوضع الطعام عليه، نظرا لوجود منضدة لهذا الغرض بالذات ما جعله يتساءل عن اهمية الصندوق.

ولذلك حاول روبرت الاستفسار من فيليب عن الأمر، ما زاد من توتره معتقدا أن روبرت ربما قد أخذ يشك في الأمر. وبعد انتهاء الضيوف من تناول الطعام نقلت الخادمة ما تبقى إلى المطبخ، لكن براندن وجد أنه من الأفضل عدم ترك سطح الصندوق خاليا، فوضع بسرعة بعض الكتب بشكل غير منظم ما أثار شكوك روبرت، إذ أن براندن كان معروفا بدقة تنظيمه.

 وبسبب عدم حضور ديفيد (الضحية) قرر الضيوف الخروج، دون أن يدركوا أن خِدَع براندن لم تنتهِ بعد، حيث أراد أن يسخر ويهين والد الضحية عن طريق إهدائه مجموعة من الكتب مربوطة بالحبل الذي خنق به ابنه. وبعد مغادرة الضيوف والخادمة انفرد روبرت بالشابين القاتلين وحاول معرفة ما يجري، مثيرا ملاحظة مهمة مفادها أن براندن كان يضع يده اليمنى في جيب سترته أغلب الوقت.

وشعر براندن بالحرج وحاول تجنب الإجابة، لكن روبرت حاصره بتساؤله، فإذا ببراندن يعترف بصحة الملاحظة، ويخرج مسدسا من جيبه ليضعه على الطاولة معللا ذلك أن المنطقة تعاني من موجة من السرقات.

وأثار هذا التصعيد فيليب الذي فقد اتزانه وأخذ المسدس صارخا أن روبرت قد كشفهما، لكن روبرت هجم عليه وأخذ المسدس منه ثم التفت إلى براندن آمرا له بالابتعاد ثم نظر إلى الصندوق وتذكر كل ما حدث في تلك الأمسية، وعبّر عن رغبته في فتح الصندوق، ما أثار غضب براندن واتهمه بالجنون، لكن روبرت توجه نحو الصندوق وفتحه وانتابه الرعب لما شاهده في داخله، واستغل براندن الفرصة وحثه على دعم الجريمة لكون

ديفيد (الضحية) حسب رأي براندن، لم يكن سوى نكرة، ولذلك فإن التخلص منه من قبل الأكثر ذكاء منه واجب، لاسيما أن روبرت دعم هذه الفكرة في الجدال الذي وقع في الحفلة، وبذلك فإنه يحاول إشراك روبرت في تحمل المسؤولية، كما نجح في إشراك فيليب في خنق ديفيد، لكن روبرت رفض كل هذا واستشاط غضبا، حيث أثبتت هذه الجريمة بالنسبة له خطأ هذه الفكرة الجنونية التي كان يؤمن بها، وتوعد الشابين القاتلين بأنهما سينالان أشد العقوبات لارتكابهما جريمة لا تغتفر.

وفتح الشباك مطلقا ثلاث رصاصات كي يجذب انتباه الشرطة في المنطقة، وينتهي الفيلم.

لم يركز فيلم «الحبل» على الجريمة نفسها، إذ أنها كانت مجرد حدث سريع في بداية الفيلم، لكنه ركّز على السبب وشخصية القاتلين، وبيّن الفيلم ظاهرة أخذت تثير اهتمام أجهزة الأمن وأخصائيي علم النفس في الآونة الأخيرة، وهي القتل لسبب بسيط جدا، ألا وهو من أجل متعة القتل حسب، من قبل شخص أو أشخاص، يعتبرون الآخرين نكرة يستمتعون بها كما يشاؤون. ويشكل هذا حالة مرضية من الغرور المفرط يمتاز المصاب بها، باحتقار واضح لمن حوله والمحاولة المستمرة لاستغلالهم.

إذا اعتقد القارئ أن قصة الفيلم خيالية، فهو على خطأ لأنها مأخوذة من قصة حقيقية جدا، أثارت الرأي العام الأمريكي عام 1924 عندما قام اثنان من أفضل طلاب الحقوق في جامعة شيكاغو، ومن الطبقة الثرية بقتل مراهق في الرابعة عشرة من عمره.

 وكان سبب جريمتهما الإثبات أنهما الأذكى والأرقى وأنهما قادران على الإفلات من العقوبة، فهما النخبة التي تقرر مصير الآخرين. وأضاف أحد الطالبين القاتلين آنذاك أنه أراد كذلك أن يجرب متعة القتل التي كانت، حسب رأيه، ستغير مشاعره، لكن آماله خابت عندما اكتشف أن شخصيته ومشاعره لم تتغير. لكن القاتلين كانا على خطأ، فلم يكونا بذلك الذكاء لأن الشرطة سرعان ما اكتشفت الأمر واعتقلتهما.

وبلغ تعجرف الشابين إلى درجة أنهما ابتسما للصحافيين الذين كانوا يلتقطون صورا لهما وكأنهما قد فازا بجائزة كبيرة. وقامت عائلتاهما بتكليف المحامي الشهير كلارنس دارو لتجنيبهما حكم الإعدام، حيث كان من المستحيل تبرئتهما. والغريب في الأمر أن ذلك المحامي نجح في مهمته، حيث حكم على الاثنين بالسجن المؤبد.

وكانت تلك المحاكمة الأشهر في التاريخ الأمريكي، وسميت محاكمة القرن. وانتهى المطاف بأحدهما بالتعرض للقتل في السجن عام 1936 على يد أحد السجناء، بينما أطلق سراح الآخر عام 1958 وتوفي عام 1971.

لم يكن فيلم «الحبل» لألفريد هتشكوك الوحيد عن هذه الحادثة الشهيرة، لكنه كان الأشهر وعزز مكانة الممثل جيمس ستيوارت، كأحد أشهر الممثلين في تاريخ السينما الأمريكية، ولذلك فقد مثل هذا الممثل في أربعة أفلام أخرى للمخرج نفسه.

 وبالنسبة لمؤرخي السينما، فقد امتاز الفيلم بعدم وجود موسيقى تصويرية فيه تقريبا، وكذلك لاستخدام فترات تصوير طويلة، جاعلا الفيلم يبدو وكأنه فيلم وثائقي.

وبالنسبة للممثلين، فقد كان العمل بهذه الطريقة مرهقا جدا، ففي حالة حدوث أي خطأ كان عليهم إعادة تمثيل المشهد الطويل، وبالتالي حاولوا جهدهم تجنب أي خطأ من المحاولة الأولى للتصوير. وقد علل المخرج طريقته في الإخراج أنها جعلت جميع الشخصيات الرئيسية على الدوام تقريبا في كل مشهد، لزيادة الإثارة، لاسيما أن جميع الأحداث تقع في المكان نفسه، أي الشقة.

 ولم يكرر المخرج هذه الطريقة في التصوير، لكن فيلماً آخر للمخرج الفريد هيتشكوك بعنوان النافذة الخلفية Rear Window (1954) مع جيمس ستيوارت تمحورت أغلب احداثه في شقة أيضا، واستعمل المخرج في فيلم «حبل» تقنية التكنيكلر، وكذلك تقنية التكبير Zooming، وتعد هذه المرة الاولى لاستعمال التكبير في تاريخ السينما الأمريكية.

تضل الجرائم الشهيرة في التاريخ مادة خصبة للسينما العالمية، وقد اعتمدت عليها بشكل خاص أفلام العصابات المنظمة (المافيا) والأفلام السياسية، فمثلا أنتج عدد كبير من الأفلام والمسلسلات عن مقتل الرئيس الأمريكي جون كينيدي، وكذلك زعيم العصابات آل كابون وحتى القائد الروماني يوليوس قيصر وغيرهم.

 

  • باحث ومؤرخ من العراق

 

 








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي