ظلٌّ يتيم أسمّيه الطوفان

2021-08-22

يحيى الشيخ/ ليبيا (جزء من لوحة)

عاشور الطويبي*

 

البيوت قبائل

 

البيوت قبائل، مثل البشر تماماً، تُحرّكها عواطف غامضة، تشتعل فيها النيران، تنتشي بالبلل.

لا تدخل حروبًا ولا تتلصّص على أحد. جُلّ ما تفعله في حيواتها، أنْ ترسم غيومًا في السماء

وتفتحَ للشمس وللشجر قلوبها. البيوت، رمّانٌ ينثر حبوبه الحمراء في الفضاء، علّ ذات يوم تمتدّ إليها يدُ إله!

■ ■ ■

في كلّ غرفة

 

في كلّ غرفةٍ بقعةُ شمس وسريرُ ليل، وحدها نافذة المطبخ تفهم لغة الحنّاء.

أحذيةُ الجلد العاليةُ والصنادلُ تقعد على العتبة، يأخذها الحنين إلى طرقاتٍ بعيدةٍ.

تكاد من شغفها تشمُّ عَرق نساءٍ جافلاتٍ خائفات.

كيف لها، آن تمشطُ الطفلةُ شعرها، أنْ تغمضَ عينيها على جمال أخّاذ؟

كيف لها، آنَ يملأ المكانَ رنينُ خلخال وشهقةُ حال، أنْ تلتفت إلى يعاسيب تحوّم ورمّانٍ يهتزّ؟!.

■ ■ ■

الغابة لا تقف

 

عندما يكون بيتٌ لكلِّ فصلٍ، وفصلٌ لكلِّ بيتٍ، تجلس الغابة - الغابة لا تقف -

على الطريق المؤدّية إلى القرية، تُرسل طيورَها، تَسترق السمعَ، تبعث روائح أوراقها إلى طاحونة القرية: الحارّةَ للقمح، الباردةَ للقصب، الحامضةَ للحلبة.

أمّا ما تبقّى من الروائح، يجمعها الطحّان في قرطاسٍ، يعلّقه على مئذنة الجامع.

■ ■ ■

حكايات

 

الحكاياتُ التي تدخل البيوت، ليست الحكايات التي تخرج منها.

حكاياتٌ بلون الجعة، حين تقترب منها الشمس، وبلون القرفة، حين تجلس قريبًا من الليل.

للحكايات أفواهٌ ولغات. لكلِّ فمٍ قفلٌ مفتاحُه على صدر عذراء، ولكلِّ لغةٍ حِبرٌ يخرج من بئر النسيان؟ النسيانُ، خازنُ الحكايات. لا جسدَ له، لكنّه ينبت كما تنبت سنابلُ القمح والشعير.

يحبُّ القمرَ في تمامه ويحبُّ من الأغاني، ما يولد في المراعي والسهول.

إنْ شققتَ صدره، يهبُّ نسيمٌ له من صفات البحر، السلاسة ومن صفات النار، الشوق ومن

صفات الحديقة، الغبطة ومن صفات الرمال، حنين الذئاب.

■ ■ ■

استدارة

 

استدارة أيِّ شيءٍ، فعل خطيئة. كأنْ تقولَ: استدارت القصيدة، على نفسها.

السهم، يستدير على ضحيته. عيدان القصب، تستدير على الماء. نخل القرية، يستدير على النسيان. فراشات كثيرة، تستدير على نهار وليلتين. الفتارين المضيئة، تستدير على شغف الشوارع.

ضحكات طفل وطفلة، تستدير على وجدٍ شفيفٍ. فراغُ كونٍ - أو هكذا نراه - يستدير على فجيعة عظيمة. فأيّ استدارة يكون قلبك يا لاعب النرد؟

■ ■ ■

خرّوب

 

كذلك البيوتُ الوحيدةُ، تخاف. تحضن نفسها، واقفةً، تراقب ندف الثلج.

تمدّ أعناقها، إلى الفضاء الرمادي. تجمع ما تفتّتَ، من الصمت.

في صندوق خشبي، تضع لوعاتها، أمّا خيباتها، تتركها تركض في الشارع، عريانة

- هكذا تركض الخيبات -.

كذلك البيوت الوحيدة، لا تنام. تغزل وحشتها، خيوطًا طويلةً،

تعلّقها، على أغصان الشجرة القريبة، قُرونَ خَرّوب.

■ ■ ■

ظِلّ البيت

 

ظِلُّ البيت، الذي بنيته في صبراتة، شاسعٌ، كابتسامة اليوم الأوّل من رمضان.

حوافّه، ناعمةٌ لا التواء فيها. صدره، باردٌ حين تأخذ الشمس في العودة إلى بيتها وراء مقهى الجرف.

ظِلٌّ، تتفتّح أزهاره السرّية في الليل. يذوي، حين تتعالى أصوات الغرقى.

يرتجُّ حزناً، كغابة تُركت للنسيان. يلعق الموج، أطرافه ويجمع بيديه الخائفتين

ما يركض، على الرمل من سلطعونات.

ظِلٌّ يتيمٌ أسمّيه الطوفان.

 

  • شاعر من ليبيا







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي