شبكة الأمة برس | موت لبنان


موت لبنان

شُيِّع لبنان أكثر من مرة إلى قبره. إلى درجة جبلت معها ولادته بموته. شُيِّع في الخمسينيات ودفن عام 75. سبحة مصائب، كل مصيبة بعنوان وراية. صارع الأزمات والملمات، وأغلبها لسوء طالعه وجودي. عرف باكرا أنه ليس قويا. طري عوده، كان وسيبقى. القوة في الضعف معادلة هشة. المحيط عميق وهائج. النجاة لمن يسبح مع التيارات، والبقاء لمن يتأقلم لا للقوي. سيوف أولاده عليه لا معه. وهي كثيرة وقاطعة. أدرك الصغير مجددا ضرورة تطويع نفسه. تعايش مع الجميع، وما أصعبهم. جيوش وميليشيات، احتلالات واجتياحات ووصايات، لاجئون ونازحون ومارقون. عاصر قضايا العرب والعجم. عاصر وعَصَر واعتُصِر. غالبا، ما كان يعود. كأفلام التشويق في هوليوود. بطل مضمد، مخضب بدمائه ومآسيه، لكنه في الفصل الأخير ومع النهاية السعيدة، كان يعود.

في السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي. انتفض. رايات وهتافات وأهازيج، وحناجر تصدح. دعك من البذيئة منها. التحم الشعب بوطنه، أو هكذا بدا. أن تأتي انتفاضة متأخرة خير من عدمها. بدا لبرهة أن النظام العميق، ضحل. استفاق المارد. كل المؤشرات مشجعة. لكنني انزويت، متشككا. وقفت على ناصية بولفار الثورة، فرحا لكن خائفا. قيل لنا إن لا خوف في الفرح. يغمرك كموجة نور. غمرني النور، والخشية أيضا. قلت لصديق إن زعماء الطوائف وأمراء الحرب أكثر تجذرا من الوطن نفسه. صرفني بابتسامة ثائر، أشبه بثغر تشي غيفارا الحالم. تفاءلت لكن، بخوف مرة أخرى. كانت الطبقة السياسية تخفي في جعبتها سلاحا كاسرا للثورة العابرة للطوائف وخطوط التماس، دأبت على اللجوء إليه منذ تأسيس "لبنان الكبير".

تدفقت التيارات المعاكسة. جيش على حياد سلبي. سلطة فاسدة متعددة الرؤوس، غير مكترثة. تقاتل هذه المرة على الوجود والنفوذ معا. تفرع الشارع إلى شوارع وانقسمت الساحة إلى ساحات تقاطرت منها الغزوات. شارع درزي، وآخر مسيحي، شارع شيعي وآخر سني. توارى الصغير مرة أخرى. بدأت طقوس كارنفال الموت. نبشت القبور واستحضرت الطوائف شهداءها، استنهضت لغة الحرب وقص شريط خطوط التماس. مرة أخرى بدا أن الصغير يتيم. لا شارع يهتف باسمه.

لكن المشهد ناقص. كان يحتاج إلى عنصر درامي مكمل للتراجيديا. ضربت الولايات المتحدة بيمينها العظيم. سوط عقوبات على جسد بلد منهك بالفساد والطائفية والمحاصصة والحروب. سيق إلى بلد يفوقه مساحة نحو ثماني عشرة مرة. طيف مسلحيه يجوب الخرائط ويعبر الحدود. في سوريا واليمن والبحرين والكويت وغيرها. لسوء طالعه، لا يؤمن سيد البيت الأبيض بالعواطف. لا يعنيه التاريخ، أبعد التاريخ اليوم، أو البارحة في أحسن الأحوال. بالكيل الذي تكيل سيكال لك به. قاتلت في الخارج سنقاتلك في الداخل وهكذا كان. ضربت الولايات المتحدة بيمين عقوباتها. سلوا إيران وكوريا الشمالية وقبلهما كوبا. مع فارق أن البلدين الأخيرين لا يحتفظان بشراهة إقليمية خلف حدودهما البرية والبحرية.

التحمت العقوبات بالفساد والشح بالمقاطعات. احتجب الدولار وتهاوت العملة وانهارت. معادلة ظالمة، لكن قاتلة. مرة جديدة تأوه الضعفاء في الوطن الصغير. فقراؤه. نعلم أن الكوارث لا تأتي فرادى. لبنان وإن كان فريدا ليس استثناء. أطلقت الطبقة السياسية مناوراتها. خرج الحريري وأدخل دياب. بحث السماسرة عن تسوية وكبش فداء. رأس الحاكم مغر. ازدهرت السوق السوداء. بدت لقمة العيش السائغة، عالقة، أشبه بفخ قاتل. هكذا كان. انتحر لبنانيان ضاقت بهما سبل البقاء. غادرا غير كافرين لكن جائعين.

ثم أحيل الصغير الحامل إحدى أكبر المديونيات في العالم إلى غرفة الكبار. دخل عالم الأرقام بلا أرقام. أرسلته الطبقة السياسية إلى صندوق النقد الدولي بلا غطاء أو دفاتر حسابات. الصندوق لا يصرف شيكات بلا رصيد. الإصلاح أولا، المال ثانيا. مرة أخرى تحول باب الخلاص إلى هلاك آخر مألوف.

نظرت إليه فرنسا الملتحقة إلى حد ما بمنطق واشنطن. يبقى هذ الضئيل جسرا متعدد المواهب والألسنة وربما حاجة، - أقله هذا ما أوهمنا أنفسنا به - صروحا جامعية وإن مفلسة أو على حافة الإفلاس. رجا وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان سماسرة السلطة وأكلة الجبنة: ساعدونا لنساعدكم AIDEZ – NOUS A VOUS AIDER. لكن ما من مجيب. القصور بعيدة والجدران عالية، شهوة السلطة كاوية، وهي عمياء صماء.

وبين هذا وذاك انكفأ الشعب عن ثورته، وانحسرت مطالبه إلى رقعة البحث عن كسرة رغيف في ظل عباءات زعماء الطوائف وأصنامهم. انتكس لبنان، وهو ما زال في رواق الطوارئ ممنوعة عليه غرفة الإنعاش.

كل هذا الحمل، وفي الداخل والبعيد، يقف من يقف، منتظرا مراسم التشييع والتعازي. ثمة من ينتظر على ضفة النهر، يدرك أن الزلزال كبير، وأن الضحية تترنح على خط الصدع. يراقب التيار، عله يأتي بجثة تطفو. ربما، لكن لبنان، امتهن الموت، وكذلك الحياة ومنذ نشأته. دفن أجيالا ظنت أنها وارته الثرى. سار في حتف أبنائه ونظم جنازاتهم. قلدهم أوسمة موت وبطولة على صدور جثثهم. وكما باغتت الطبقة السياسية الحاكمة في العلن والظل، في العرف والدستور، نبالة هذه الثورة وانقضت على مطالبها، نأمل من جيل السابع عشر من تشرين -لا المتحزبين والناشطين ممن ينتحلون لون العلم- نأمل بمفاجأة وإن بعد حين. مفاجأة يجرف معها النهر من يترقب جثة هذا الصغير. هو لن ينزل القبر. سيقوم بما نجح به دوما. سيسير بهم إلى حتفهم، ويغلق باب القبر خلفه، يصرف الحانوتي إلى بيته، ويعود أدراجه.

هما خياران لا ثالث لهما. حياتك أو حياتهم. موتك أو موتهم. رأسك أو رأسهم. الثورات كالاستقلال تنحت بأظافر اللحم الحي، تدمي وتدمى. دعك مما يقولون، أو ينصحون أو يهمسون ويوسوسون في صروحهم وسراديبهم. لا يُنتظر منك أن تنظر لا غربا ولا شرقا. كن كقلعة بعلبك، متوهجا وصاخبا، وجهك للشمس، وللشمس وحدها. فأنت ابنها ومثلها، تميل ولا تهوي. وأنت أيها الصغير، كما يصفك شاعرك الكبير: لبناني دون أي نعت آخر.

* نقلاً عن العربية نت


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-920.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-04-19 07:04:32