شبكة الأمة برس | هل من حاجة لمحاربة التاريخ؟


هل من حاجة لمحاربة التاريخ؟

قبل بضعة أشهر فقط، كان من المستحيل أن نتخيل أن شخصاً ما سيدعو بجدية إلى هدم الأهرامات في الجيزة أكبر المعالم الأثرية للحضارة المصرية القديمة، انطلاقاً من أنه استخدم «عمل العبيد في بنائها». لكن تم العثور على مثل هؤلاء الأشخاص في وقتنا المجنون والمليء بالمفارقات.
إنها مجموعة من المناضلين البريطانيين ضد العنصرية، الذين نشطوا، كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى، خاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا وبلجيكا وفرنسا، بعد مقتل المواطن من أصول أفريقية جورج فلويد في الولايات المتحدة من قبل ضابط شرطة أميركي. حسناً، لقد هدموا تمثال إدوارد كولستون المنصوب في مدينة بريستول، الذي أصبح في نهاية القرن السابع عشر نائباً لحاكم الشركة الملكية الأفريقية. هنا لا يمكنك قول أي شيء، إذ أن الشركة كانت تمارس نشاطاً غير مشرف، ألا وهو تجارة الرقيق، وقد نقلت إلى أميركا على مر السنين، عندما عمل كولستون فيها، 84000 من العبيد الأفارقة، توفي 19000 منهم في الطريق.
لكن الأمر فيما يخص الأهرامات، مختلف تماماً. الأهرامات، وفقاً لتفسير عالم الآثار والمؤرخ المصري زاهي حواس، تم تشييدها من قبل بناة محترفين، وليسوا عبيداً. يثبت ذلك حقيقة أنهم، في عصر بناء هذه الهياكل الفريدة في الألفية الرابعة قبل الميلاد، دفنوا بجوار مقابر الفراعنة، وهو شيء مستحيل لو أنهم كانوا عبيداً. وبشكل عام: إذا كان الهدف هو تدمير كل شيء تم بناؤه بمساعدة عمال السخرة، حينها سيتعين تدمير جزء كبير لا يقدر بثمن من التراث الثقافي للبشرية، منها آثار روما القديمة واليونان ودول بلاد ما بين النهرين ومصر والصين وغيرها.
نحن نخاطر بالبقاء من دون مسرح الكولوسيوم وسور الصين العظيم. بالمناسبة، تعرضت الأهرامات المصرية في الماضي البعيد لمحاولة تدميرها. وقد ابتدع ذلك السلطان الأيوبي العزيز عثمان بن يوسف، الذي بدأ عملية التدمير من الهرم الأصغر «منقرع»، لكنه سرعان ما اضطر للتوقف لأن العملية كانت مكلفة للغاية. ومن ثم تعرض الهرم في القرن السادس عشر لاعتداء جديد، حين أزال المماليك الكسوة الحجرية الجميلة عنه، لكن الهرم نفسه نجا من الدمار.
تحت ذريعة مماثلة، دمرت «طالبان» في عام 2001 تماثيل بوذا العملاقة في مجموعة المعابد في وادي باميان وسط أفغانستان، التي كانت قد نحتت في القرن السادس الميلادي. فشل حينها المجتمع الدولي في حماية هذا النصب التذكاري لفنون التماثيل. بالمناسبة، منذ ذلك الحين تغيرت حركة «طالبان» بشكل ملحوظ. وفي السنوات الأخيرة أيضاً، تم تدمير العديد من المعالم الأثرية من قبل المتعصبين من «داعش» الإرهابية سيئة السمعة.
رغم كل تعاطفنا مع ضحايا التمييز العنصري وجميع أشكال الظلم، بما في ذلك في العالم الإسلامي، تجدر الإشارة إلى أنه من غير المرجح حل المشاكل التي تواجه البشرية من خلال إعلان الحرب على الآثار والنصب التذكارية. بالطبع، يمكن أن يتغير ويعدل تقييم الأحداث والحقب المختلفة في تاريخ أي دولة. على الأغلب تستحق أن تهدم النصب التذكارية للطغاة المحليين، والغزاة الأجانب، والظالمين والمجرمين. يحدث أن يقوم شعب غاضب، في مرحلة المنعطفات المصيرية، بتحطيم مثل هذه المعالم من دون انتظار قرارات السلطات الرسمية بهذا الشأن. لكن يبقى هذا استثناء للقاعدة.
أما هنا فقد نشأ وباء بحد ذاته من التخريب. أصبح مقتل فلويد بمثابة الزناد الذي فجر قروناً من امتعاض متراكم لدى السكان في العديد من البلدان. صورة بعض الشخصيات التاريخية تغيرت بـ180 درجة في أذهان بعض الناس، أكان ذلك بحق أو غير حق، بعدل أو من دون عدل. لقد أصبح كريستوفر كولومبوس بالنسبة لهم رمزاً للإبادة الجماعية، بدلاً من مكتشف أميركا، وكما هو معروف، تعرضت نصبه التذكارية لأعمال تخريب. عالم الطبيعة السويدي في القرن الثامن عشر، كارل لينيوس، مبتكر نظام التصنيف الموحد لعالم النبات والحيوان، يُنسب إليه التصنيف المزعوم للأجناس. لقد اكتسب، المكافح، الذي لم يكل، ضد الاستعمار مهاتما غاندي، سمعة العنصري، كما لو أنه دعا إلى تفوق الهنود على الأفارقة.
أطلق لقب «الملك العنصري» على الملك الأسكوتلندي في القرن الرابع عشر روبرت بروس، زعيم النضال من أجل استقلال أسكوتلندا عن إنجلترا، الذي وعلى الأغلب لم يرَ أي أفريقي. أطلقوا على الجنرال ديغول صفة «تاجر الرقيق» أيضاً وسكبوا الطلاء الأصفر على نصبه التذكاري، لكن الرئيس إيمانويل ماكرون، وعلى ما يبدو الوحيد من بين الزعماء الأوروبيين وقف بحزم ضد تبرير التخريب بما يدعي بأنه «تصحيح سياسي». قام نشطاء «حياة السود مهمة» (Black Lives Matter) بهدم نصب تذكاري لأحد مؤلفي إعلان الاستقلال الأميركي، الرئيس الثالث، توماس جيفرسون (1801 - 1809) في بورتلاند. حاولوا هدم النصب التذكاري للرئيس أندرو جاكسون (1829 - 1837) أمام البيت الأبيض، لكن الشرطة حالت دون ذلك ومنعتهم. تم وصف جاكسون بأنه «مالك العبيد»، وبأنه الشخص الذي قام بنقل الهنود بأعداد كبيرة إلى أراض بعيدة لتوسيع المنطقة للمستوطنين البيض. يطالب الناشط والقس السابق شون كينغ بتدمير جميع اللوحات الجدارية للمسيح ذي البشرة البيضاء، مما يتسبب في ردة فعل سلبية حادة بشكل خاص في العالم المسيحي ويثير الانقسام. حسناً، لم يكن هناك أفريقيا، فما الذي يمكن فعله الآن؟ أصبح تدمير التماثيل نشاطاً شائعاً لدرجة أن مجلة «بوبيولار ميكانيكس» (Popular Mechanics) نشرت تعليمات لطريقة هدمها. بات تطور الوضع ككل مقلقاً لدرجة أن الرئيس دونالد ترمب، كما هو معروف، وقع مؤخراً مرسوماً (أعلن ذلك عبر تويتر) بشأن حماية الآثار والنصب التذكارية والتماثيل، ينص على السجن لمدة تصل إلى 10 سنوات عقاباً على أعمال التخريب.
لقد مرت روسيا، في سياق تاريخها الحديث المليء بالتقلبات الدرامية، بحملات الهدم في الماضي، والتي كانت السلطات دائماً تجيزها. أمرت الحكومة البلشفية، بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917. بتفكيك تماثيل القياصرة والجنرالات والشخصيات البارزة من الحقبة القيصرية، مع بعض الاستثناءات، مثل الأسطوري بطرس الأول. تم ترميم أو إعادة نصب بعضها في سنوات ما بعد الاتحاد السوفياتي. ظهرت نصب تذكارية لكثير من الشخصيات التاريخية المنسية ليس فقط في روسيا، ولكن أيضاً في جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفياتي الأخرى، رغم أن الخلافات حول هذه القضية لا تزال تثير المجتمع. اليوم، من المعتاد أن ننظر إلى النصب التذكارية وآثار الماضي كأعمال للفنون الجميلة وذاكرة من التاريخ، والذي لا يمكن تغييره أو إعادة كتابته. علاوة على ذلك، تعمل الدولة بتكريمها لمختلف الشخصيات التاريخية التي لعبت دوراً مهماً في تاريخها، حتى لو لم يوافق جميع المواطنين على هذا الدور وتوجهاتهم السياسية، على تعزيز المصالحة الوطنية بعد الثورات والحرب الأهلية والانقسامات الداخلية الأخرى التي مرت بها. يؤخذ أيضاً في الاعتبار أن مختلف المجموعات العرقية والطائفية من السكان، التي تشكل أمة مدنية واحدة أو كانت تعيش في الماضي في إطار دولة واحدة، لها أبطالها وشخصياتها التي تستحق التخليد.
نعم، العبودية هي صفحة مخزية في تاريخ البشرية، وفي المقام الأول في تاريخ الولايات المتحدة. نعم، كانت هناك حرب أهلية بين مؤيدي العبودية ومعارضيها، ومن المفهوم أيضاً أن أحفاد العبيد لا يرغبون في رؤية تماثيل قادة أولئك الذين دافعوا عن الحفاظ على العبودية والقمع العنصري. لكن، كما جرت العادة منذ بداية القرن السادس عشر أن نقول: «لا ينبغي للمرء رمي الطفل بالمياه الوسخة بعد غسله». من الصعب أن ننسى أن أصحاب العبيد كانوا من الجامعات الأميركية الشهيرة، فهل هذا يعني أنه يجب إغلاقها أو عدم الدراسة فيها؟
في روسيا، حيث لا وجود لمشاكل عنصرية، ومنذ الحقبة السوفياتية، هناك تقليد في دعم جميع حركات التحرر الوطني - وفي الشرق الأوسط يعرفون ذلك جيداً، مع ذلك يعبر الناس عن ذهولهم تجاه المظاهر السخيفة والمدمرة للحضارة العالمية الناتجة عن «مكافحة العنصرية». حتى أن مدير برنامج نادي «فالداي» الدولي للحوار، إيفان تيموفيف، أشار إلى أنه «في نهاية الأمر، كان العديد من الكونفدراليين يعارضون العبودية بشدة، وكانت الحرب بالنسبة لهم نوعاً من الدفاع عن بيوتهم».
أود الإشارة في الختام، فيما يتعلق بمسألة «الحرب ضد النصب التذكارية» أن الروس ينظرون بسخط إلى ما يجري في بعض بلدان شرق ووسط أوروبا من تفكيك للنصب التذكارية للجنود السوفيات الأبطال الذين ضحوا أثناء تحرير أوروبا من الفاشية. وزارة الخارجية الروسية وصفت، على وجه الخصوص، قرار مجلس النواب البولندي الذي يسمح للسلطات البلدية بهدم النصب التذكارية «الشيوعية» بأنه إهانة لذكرى الضحايا.
إن استعادة العدالة أمر ضروري، وإعادة النظر في التاريخ أمر لا مفر منه (أنا لا أستبعد إمكانية أن تؤدي إلى مراجعة الكتب المدرسية)، ولكن لا يمكنك تغييره. محاربة التاريخ ليست أفضل مهنة للبشرية، التي هي اليوم بأمس الحاجة وأكثر من أي وقت مضى إلى التكاتف والاتحاد.

* نقلاً عن الشرق الأوسط


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-883.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-04-25 11:04:18