شبكة الأمة برس | الحروب في زمن كورونا


الحروب في زمن كورونا

قبل ثلاثة أسابيع، في الـ23 من مارس (آذار)، وجّه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، نداءه لوقف النزاعات المسلّحة في العالم، والتركيز معاً على المعركة الحقيقية في حياتنا، وقال شارحاً: "عالمنا يواجه عدواً مشتركاً يتمثّل في فيروس كورونا المُسبب مرض (كوفيد 19)، الذي يهاجم الجميع بلا هوادة، ولا يأبه لأي أصل عرقي أو جنسية أو دين".

لم تتحرّك بؤر النزاع كثيراً نحو سلامٍ ملموسٍ، وفي أربع نقاط من العالم فقط جرت أحاديث لا يُعوّل عليها كثيراً عن رغبة في التسوية والسلام.

الحوثيون في اليمن (خريجو المدرسة الإيرانية في التلاعب بالمواقف والإعلام) أبدوا ردوداً، عدَّها مبعوث غوتيريش، مارتن غريفيثس "إيجابية"، وأبدت "قوات الدفاع الكاميرونية الجنوبية" دعمها لوقف النار في بلدها، استجابة إلى نداء الأمين العام، وهو ما أعلنه الحزب الشيوعي المتمرد على سلطات الفيليبين، وكذلك قوات سوريا الديمقراطية التي أيّدت فكرة وقف إطلاق النار، وتعهّدت تجنُّب التحركات العسكرية في شمال شرقي سوريا .

لن يشكك أحدٌ بصدق نيات الأمين العام للمنظمة الدولية، لكن البعض اعتبر أن واجب الأمم المتحدة يقضي أن لا تنتظر حلول الكارثة كي تتحرّك، ولا ينفي أحدٌ أهمية ومركزية دورها في مواجهة الوباء عبر منظمة الصحة العالمية، إحدى أذرعها الفاعلة والمحترمة.

وفي الواقع انتظرت الأمم المتحدة طويلاً، ومرَّت تحت ناظريها فرصٌ لا تُعَدّ ولا تُحصى لمعالجة مسائل نزاع أساسية، فلم تقم بواجبها، وبقيت تلك المسائل مشروعات انفجار على مختلف المستويات .

ولعل القضية الفلسطينية تختصر بجوانبها المختلفة أزمة السلم والحرب في عالمنا، فهي الوحيدة التي لم تجد حلاً منذ أكثر من سبعين عاماً، ولا تزال ولاّدة مشكلات فرعية ممتدة ومتناسلة.

وتاريخ القضية الفلسطينية ملتصقٌ بتاريخ الأمم المتحدة، بل تكاد تكون من الموضوعات الأولى الثابتة على جدول أعمال المنظمة الدولية منذ قيامها في منتصف القرن الماضي، وقبلها كانت نقطة ضاغطة على جدول عصبة أمَمٍ فاشلة قامت بين الحربين العالميتين.

وفي زمن الوباء الراهن تختصر فلسطين مجموعة من الأزمات المتداخلة التي تبشِّر بكوارث لا يدري أحدٌ مداها. لقد انتشر الوباءُ في أنحاء البلاد، وفاق عدد المصابين حتى صباح أمس الأحد 8018 إصابة، وارتفع عدد الوفيات إلى 46.

وسجَّلت الضفة الغربية 217 إصابة حتى السبت الماضي، بينما أطلقت وزارة الصحة في غزة الصرخة، معلنةً أنها تواجه "أزمة خانقة جراء تناقص المقومات الدوائية والتجهيزات الطبية ومستلزمات الوقاية والفحوص المخبرية وأجهزة التنفس الصناعي".

وحسب إحصاءات سابقة، فإن غزة تعاني نقصاً حاداً بالأدوية الأساسية، يصل إلى 39 في المئة، وفي المستهلكات الطبية يصل إلى 32 في المئة، و60 في المئة نسبة عجز لوازم المختبرات وبنوك الدم .

ولخدمة مليوني مواطن فلسطيني يعيشون في 360 كيلومتراً مربعاً يتوفّر نحو 3 آلاف طبيب، بينهم 700 متمرن، و4 آلاف ممرض وممرضة، و450 صيدلانياً، ومئتي عيادة ربعها تملكه السلطة المحلية، و85 جهاز تنفس بينها 20 للأطفال

كان من حسن حظ الضفة والقطاع تأخّر الوباء في الوصول إليهما، وبعد أن وصل تزداد مخاطره يوماً بعد يومٍ، إلى حد "تهديده" باستعادة فلسطين وحدتها التاريخية على يده، بعد أن مزَّقها وشرذمها الاحتلال .

قبل نداء غوتيريش السلمي بثلاثة أيام، وجّهت إسرائيل تحذيراً إلى أعدائها بالمنطقة، فحواه "لن نتحمَّل أي استفزاز في الفترة الحالية. لا تحاولوا أن تجربونا. أي استفزاز سيُقابل برد فعل غير تناسبي".

كان الوباء عاملاً محدداً في توقيت التحذير وأهدافه، فهو ظهر كابحاً لخطط التصعيد الإسرائيلية من جهة، ومبرراً لتشريع إمساك الجهاز العسكري الإسرائيلي بكل المعطيات على الأرض، إلا أنه فتح باب الاجتهاد، وعلى لسان الطرف الأكثر استنفاراً على المستوى العسكري منذ قيامه، أمام الاحتمالات التي يثيرها ويفرضها كورونا على جدول الأعمال .

رأت إسرائيل استناداً إلى معلومات استخبارية "أنّ الأزمة تستفحل" في إيران ولبنان، وحسب تقرير "يديعوت أحرونوت" فإنّ الوباء "أثّر في أداء الحرس الثوري الإيراني".

وفي نهاية فبراير (شباط) رسمت هيئة الأركان العسكرية الإسرائيلية برئاسة أفيف كوخافي سلّم أولوياتها على النحو التالي :

1-  الحفاظ على الكفاءة والجهوزية العسكرية، والإصرار من دون مساومة على الهرمية القيادية للجيش الإسرائيلي، بسبب التخوّف من عدوى واسعة داخل الجيش .

2-  تقليص وتيرة انتشار الفيروس في الجيش.

3-  تقديم المساعدة إلى المدنيين.

رغم "اطمئنانها" إلى عدم سعي إيران أو حزب الله لشن هجمات ضدها، فإن إسرائيل قامت بغارات في عمق سوريا ضد مواقع قالت "إنها إيرانية"، وهي أرادت القول إن الوباء "لم يؤثر في خططها".

والواقع، أنّ التصعيد في الخارج والداخل لا يمكن فصله عن الصراع السياسي الداخلي والحظوظ الجديدة التي ستسعف بنيامين نتنياهو في تشكيل حكومة بات اسمها "حكومة كورونا".

وما تخشاه إسرائيل فعلاً هو انتشار المرض في غزة، فإذا حدث ذلك ستحلّ "نهاية العالم" على ما ينقل عن الجيش الإسرائيلي .

وفي السياق يدور "غزلٌ" بين حركة حماس والسلطات الإسرائيلية، تواكبه رسائل تطمين، وقبل أسبوع بعثت الحركة برسالة إلى إسرائيل، مفادها أنها "ليست مسؤولة" عن إطلاق قذيفة صاروخية ردّت عليها إسرائيل بعنف.

وفي الموازاة حرص يحيي السنوار، قائد حماس في غزة، الذي تفقَّد معبر رفح على تنبيه الإسرائيليين إلى أنه يريد منهم الدعم لمكافحة الوباء... وإلاَّ .

سيوحّد هذا الوباء أرض فلسطين كما لم توحّد منذ سيطرة العثمانيين، من النقب إلى الجليل، ومن البحر المتوسط إلى نهر الاْردن، وسيفرض أولويات أخرى من التعاون والتضامن الإنساني، وسيطرح رسالة غوتيريش على بساط البحث والتفكير .

وربما هي مصادفة مليئة بالإيحاءات أن تحلّ ذكرى "يوم الأرض" بعد أسبوع من نداء الأمين العام، لتلاقي كورونا في إعادة رسم خطوط الأرض الواحدة من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب .

لقد جعل الوباء "يوم الأرض" يوماً إلكترونياً، جمع على شاشات الأجهزة الذكية ملايين الفلسطينيين، ومعهم بالتأكيد أعدادٌ مماثلة من اليهود والعرب والأجانب، والوباء نفسه سيدفع الجميع في أوقات لاحقة إلى خيارات يصعب التكهّن بها، لكن السلام سيكون أحد عناوينها .

قِيل في انتقاد الأمين العام للأمم المتحدة إنه تأخّر في دعوته إلى وقف النار والسلام في العالم، وفي ذلك كثيرٌ من الصحة، إلا أنّ المسؤولية لا تقع عليه وحده، فالغطرسة العالمية بلغت ذروتها طوال العقود السابقة، ونتجت عن ذلك حروبٌ محلية وإقليمية، ولم يُنظر إلى آلام الناس وحاجاتهم باهتمام، إلى أن ضرب "كوفيد 19" ضربته، فهزَّ أقوياء العالم، وأرعب الضعفاء فيه.

الآن، يمكن أخذ رغبات غوتيريش بالاعتبار، في انتظار ترجمتها إلى وقائع.


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-575.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-03-29 04:03:24