استغرق الأمر من فلاديمير بوتين أياماً قبل أن يقرّ بأن الهجوم الإرهابي على قاعة للحفلات الموسيقية في كروكوس بالقرب من موسكو كان من عمل عناصر تنظيم «داعش» من آسيا الوسطى. ومع ذلك، استمرّ في التحليق بطائرته الورقية القديمة حول مسؤولية أوكرانيا.
إن هذا الزعم بالمعنى الذي يقصده الزعيم الروسي هو أمر سخيف للغاية لدرجة أنه لا يستحق الرد. ومع ذلك، وإذ يجري فحصه من زوايا أخرى، فإنه يحتوي على أكثر من مجرد ذرة من الحقيقة.
على مدى أكثر من عامين، ظلت أوكرانيا تحتجز أجهزة الدولة الروسية رهائن، الأمر الذي منعها من أداء المهام الرئيسية لأي دولة جيدة التنظيم، بما في ذلك ضمان أمن المواطنين. لقد حوّل الرجال الذين يديرون جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) مواردهم إلى مطاردة الظلال المرتبطة بأوكرانيا في عالم من الخيال.
وأرسلت وحدات خاصة إلى كازاخستان، وتركيا، وصربيا، وقبرص، وسلوفاكيا، حيث فرّ ما يقدر بـ2.2 مليون مواطن روسي؛ لتفادي تجنيدهم في حرب لا يوافقون عليها. وقد نُقلت بعض تلك الوحدات من سوريا، وأوزبكستان، وقرغيزستان، حيث كانت تراقب الجماعات الإرهابية الإسلامية منذ حركات التمرد في كولياب ووادي فرغانة قبل عقدين من الزمن.
قبل غزو أوكرانيا، كانت روسيا تحتفظ بقوة دعم تتألف من 2000 رجل في طاجيكستان بالقرب من الحدود الأفغانية لمراقبة التحركات القادمة من الأراضي الوعرة جنوب نهر أوكسوس. وخلال العامين الماضيين، انخفض حجم تلك القوة إلى ما يشبه الهيكل العظمي الذي يستطيع بالكاد الدفاع عن نفسه. وأُعيد معظم أعضاء القوة إلى وطنهم لسد الثغرات، أو إرسالهم لمحاربة أوكرانيا.
كانت لدى روسيا قوة أكبر في أرمينيا لمراقبة منطقة عبر القوقاز لمنع الجماعات الإرهابية من التسلل إلى الشيشان وداغستان عبر جورجيا. ولكن هذه القوة أيضاً تبخرت، تاركة وراءها وجوداً رمزياً على الحدود الأرمينية - الإيرانية، وفي جيب ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه. كما قلصت روسيا بشكل جذري من وجودها في سوريا التي لا تزال تستضيف مقاتلي «داعش» في أرخبيل من القرى التي يسيطر عليها من يُطلق عليهم اسم «الخلفاء». كما أسفر التراجع الروسي عن تقليص حجم القوات الموالية للرئيس بشار الأسد والمرتزقة الذين استأجرتهم الجمهورية الإيرانية في طهران. كل هذا يعني انخفاضاً حاداً في المعلومات المتاحة لموسكو وحلفائها في دمشق وطهران حول أنشطة تنظيم «داعش» والجماعات المرتبطة به.
وفي الداخل، حوّل بوتين موارد ضخمة إلى قمع وسحق المنافسين السياسيين الحقيقيين أو المتصورين، مما سمح للأعداء الحقيقيين بإعادة بناء أنفسهم، ليس فقط في الشيشان، وأنغوشيا، وداغستان، وإنما حتى في قلب الأورال.
قبل شهر من هجوم كروكوس، سيطر المسلحون الإسلاميون لفترة وجيزة على مطار محج قلعة، عاصمة داغستان، وهددوا بقتل جميع ركاب طائرة قادمة من تل أبيب. كما انتقل الهوس بأوكرانيا إلى مستوى جديد بوصفه ديناً من أديان الدولة العلمانية. وفقاً لمعلومات يصعب تأكيدها، ولكنها تبدو معقولة، فإن بوتين لا يريد سماع أي شيء لا يتعلق بأوكرانيا.
في الأسبوع الماضي، وفي تجاهل واضح للمقولة المبتذلة بشأن «العملية الخاصة» التي من المفترض أن تنتهي في غضون أسبوع واحد، قرر ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم فلاديمير بوتين، ترقية الهجوم على أوكرانيا إلى «حرب شاملة يشنها الغرب» وتهديدٍ وجودي لروسيا. فإذا عدّت الغرب، أياً كان ما يعنيه ذلك، تهديداً وجودياً، فكيف تثق بأجهزته السرية حين يخبرها بأن هجوماً من تنظيم «داعش» على وشك ضربها في قاعة للحفلات الموسيقية بالقرب من موسكو، وهو ما حذّرت منه الولايات المتحدة بوتين قبل شهر؟ ذكر بوتين الرسالة الأميركية في ذلك الوقت ولكنه رفضها بوصفها جزءاً من الحرب النفسية الغربية ضد روسيا.
كانت معاداة الغرب، المعروفة أحياناً باسم «سلافوفيليا»، حاضرةً في النقاش السياسي والثقافي الروسي منذ ظهرت روسيا بوصفها دولةً معترفاً بها تحت حكم إيفان الرهيب في القرن السادس عشر. ومع ذلك، رأى السلافيون الغرب منافساً أو مناوئاً في المجالات الدينية والثقافية وبناء الإمبراطورية بدلاً من أن يكون عدواً للقتال حتى الموت.
وكما لاحظ كارل شميدت، فإن كل السياسات تدور حول الاختيار بين الصديق والعدو. لكن هناك مناسبات حيث ينبغي أن يكون الاختيار حسب الطلب، إن جاز التعبير. ففي أحيان معينة، قد يتصرف الصديق مثل عدو حتى إنه قد يشنّ حرباً عليك. ألم تبدأ الحرب العالمية الأولى مبارزةً بين حفيدَي الملكة فيكتوريا؟ وفي أحيان أخرى، قد يكون العدو صديقاً حتى في ظروف غير مرجحة. ألم يُحول ستالين تحالفه من هتلر إلى فرنكلين روزفلت وونستون تشرشل ليظهر نفسه على أنه «العم جو» الحبيب؟
يُكتسب وضع الصديق أو العدو من خلال عملية طويلة. فالعلاقة المهذبة وحدها يمكن أن تتطور إلى علاقات حسن جوار وتعاون بشأن قضايا معينة، وشراكة وتحالف، ثم صداقة في نهاية المطاف. يمكن أن يبدأ العدو شخصاً يرى الأشياء بطريقة مختلفة قبل أن يتحول إلى منافس، ومناوئ، وخصم، وفي النهاية عدو. وفي كل من الحالتين، قد تتراجع هذه العملية، وقد يتحول الصديق إلى عدو، والعكس صحيح، ومن هنا نستطيع القول إن الدول ليس لها أصدقاء دائمون أو أعداء دائمون.
غير أن توماس جيفرسون ميّز فئة أعلى من فئة العدو: العداوات البشرية (أعداء البشرية). استُخدم هذا المفهوم في وصف الإرهابيين، ومحتجزي الرهائن، وكل أولئك الذين لا يطالبون بشيء محدد منكم، ولكنهم يقاتلون؛ لاستعبادكم أو قتلكم.
ينتمي تنظيم «داعش» والجماعات الإرهابية المرتبطة به إلى تلك الفئة من العداوات البشرية. لذا، من المنطقي أن نتعاون حتى مع الأعداء الحقيقيين أو المتصورين في ذلك الوقت لهزيمتهم وتدميرهم. ولا بد أن نكون واهمين حين نتصور أن الغرب، أياً كان ما تعنيه الكلمة، راغب في تدمير روسيا، التي سواء شاء أحد أو أبى، كانت عضواً في أسرة الأمم الأوروبية، ولو أنها كانت في بعض الأحيان طفلة تعاني من المشكلات. ومن الوهم بالقدر نفسه التصور بأن أوكرانيا، التي شهدت معرفة روسيا للمرة الأولى بوصفها مفهوماً، عدوة لروسيا.
لقد ارتكب بوتين خطأ فادحاً بغزوه أوكرانيا بدلاً من محاولة كسبها بوصفها صديقاً إن لم تكن حليفاً. فقد بدأ حرباً قد تؤدي حتى إذا ما فاز بها، وهو ما من غير المرجح أن يحدث، إلى عواقب سياسية وثقافية وديموغرافية وأمنية قد لا تتمكن روسيا من التعامل معها.
طوال فترة الحرب الباردة، كانت روسيا بمثابة عدو للولايات المتحدة، ولكن تنظيم «القاعدة»، النسخة الشرق أوسطية من العداوة البشرية، هو الذي أطلق هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). وقد هاجمت جماعات أخرى من العداوات البشرية فرنسا، وألمانيا، وبلجيكا، وعشرات البلدان الأفريقية، ناهيكم عن الجمهورية الإيرانية، والعراق، وحتى أجزاء من أفغانستان تحت حكم حركة «طالبان» ذات المنبع الآيديولوجي الواحد.
بوتين بحاجة إلى دورة تدريبية في إدارة الغضب ليبدأ في التفكير في من هم أعداء روسيا الحقيقيون.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-الشرق الاوسط