شبكة الأمة برس | النخب الجزائرية والكتب الملعونة


النخب الجزائرية والكتب الملعونة

كلما كانت لعنة السياسة أو الدين المسلطة على الكتب كبيرة وقوية، كانت هذه الكتب في عيون المتلقي جميلة ومثيرة للقراءة.

شهية القراءة تتأسس بشكل قوي داخل الممنوع وضد الرقيب المانع.

صحوت كما صحا جيلي من المثقفين الكتاب والجامعيين على مكتبة مشكلة من "الكتب الملعونة" التي نحتت وعينا الفكري والأدبي والسياسي، وحركت أسئلتنا المقلقة لدى جيل كامل، كانت سنوات السبعينيات والثمانينيات سنوات القمع الجديد الذي مارسته الأنظمة السياسية للدولة الوطنية التي ورثت سلطة البلاد بعد حرب تحريرية كبيرة وخالدة، ومع ذلك كانت هذه الأعوام مليئة بالأحلام الكبيرة. 

على اختلاف توجهاتها الأيديولوجية من ملكية أو اشتراكية أو قومية أو ليبرالية أو عسكرية كانت الأنظمة السياسية من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعمل بقوة على جبهتين، الأولى تصفية الحسابات في ما بينها بإثارة الفتنة في هذا البلد أو ذاك، ودعم وتمويل جهة ما لإسقاط هذا النظام أو ذاك، أما الجبهة الثانية فهي قمع المواطن كلما طالب بحقه في جزء من الكرامة والسعادة والخبز والحرية والعدالة والعمل والثقافة الحرة.

هناك معادلة تاريخية مهمة هي كلما تعاظم القمع تعاظم الحلم. وكلما استقوى الغلق تعالت رغبة الاطلاع والفهم وتعدد السؤال.

كان جيلنا من الكتاب والجامعيين، وهو ينقب في الكتب الملعونة ويده على قلبه، يبحث عن لحظة تحرر من سلطة القطيع الغارقة في مكتبة مكشوفة لا تحرك ساكناً في العقل ولا في الإحساس.

لا شيء يخيف الأنظمة الاستبدادية قدر خوفها من الكتب المحتفلة بالعقل والجمال، تلك التي تدفع القارئ إلى هاوية السؤال الجريح، السؤال المزعج، الكتب التي تدعو إلى سلطة النقد لا النقل في كيفية التعاطي مع التاريخ والحاضر، مع الأنا والآخر، مع الحليف والخصم والعدو.

الكتب التي تصنع وعي المواطن على نار هادئة هي التي تهرب النوم من أجفان الأنظمة السياسية والدينية القمعية. الأرق المزمن!

حرصت الأنظمة على اختلافاتها الأيديولوجية أن تبدي موقفين من الكتاب، أما الموقف الأول، فيتميز بتوفير كتب "بائتة" باردة خالية من الأسئلة، جثث من ورق، كتب تكرس النوم الحضاري وتعلم التكرار وعبادة الصنم والماضي، تغلق الطريق عن الوعي الجمعي لدى المواطن، وأما الموقف الثاني، فهو "ترذيل" صورة الكتاب و"تتفيه" الفعل الثقافي بشكل عام واعتبار القوى التي تشتغل على الكتاب والثقافة هي قوى لا فاعلية لها ولا بد من أن تكون في خانة "الفولكلور" السياسي أو الثقافي الذي يستعمل مركوباً أيديولوجياً موسمياً. 

تربى جيلنا من المثقفين والكتاب، وكبر وعينا التاريخي والفكري والسياسي والاجتماعي على خزانة من الكتب المهربة، كان النظام السياسي يخشاها أكثر من خوفه من المخدرات ومن الأسلحة النارية ومن البارود، وكانت عيون الرقيب التي لا تنام عنها تترصدها بدقة متناهية.

لكن قد تنبت زهرة من بين فسحة شق صغير في قلب صخرة!

كبرنا وكبرت أحلامنا وتعددت معاركنا على كتب كانت في الهامش، كتب كتبها أصحابها بشجاعة عن الهامش، كتب ضد التهميش، كانت قليلة العدد لكنها كثيرة الأسئلة.

الكتب الممنوعة هي تلك التي تعلمنا فن السؤال، ولا تحشونا بأجوبة جاهزة. الكتب الكبيرة ليست علباً للأغذية المصبرة.

كنا نقرأ هذه الكتب حتى آخر الليل ونخفيها في النهار عن عيون الرقباء. تنام تحت الوسادة، فتوقد الأحلام في عمق نومنا.

كانت الكتب الملعونة تقول لنا، في آخر الليل هذا زمن لا نوم فيه، هذا زمن اليقظة الدائمة.

جئنا الجامعات وكان معظمنا من أبناء القرى والمداشر، فسكنا الأحياء الجامعية، فكانت فرصة لتكوين أسر جديدة، أفرادها من الطلبة، وعلاقات إنسانية جديدة، لم تكن الإقامات الجامعية عبارة عن تجمع كمي بشري شباني للتحصيل فقط، لم تكن غرفنا فضاء للنوم والراحة وترديد محاضرات الأساتذة التي نسمعها في اليوم، بل كانت فضاء لليالي الحوارات الطويلة الحادة التي تمتد حتى الصباح، نقاشات ساخنة في السياسة والدين واللغة والديمقراطية والحزب الواحد.

كانت الإقامات الجامعية أكثر قوة من الجامعة، كانت نقاشات غرف الأحياء الجامعية أكثر أهمية من نقاشات مدرجات الدكاترة. 

في هذه الأحياء الجامعية بعالمها الصاخب تعرفت إلى خزانة الكتب الملعونة، هي خزانة يشترك فيها كثيرون، كانت الكتب تدق باب غرفتي كل ليلة، يحضرها أصدقاء مسكونون بحلم التغيير، وصول الكتب إلى الغرف كان يجري من خلال عملية منظمة ومحكمة وحذرة حتى لا تنتبه عيون الرقيب التي لا تنام.

وحين تحط الكتب في الغرفة، نعاملها بكثير من الانتباه والرعاية الخاصة جداً، ومن النظام الصارم لقراءة الكتب الممنوعة هو أن الكتاب، بحسب حجمه، لا يستقر في غرفة الطالب أكثر من ليلتين أو ثلاث، لينتقل بحسب برنامج دقيق إلى طالب آخر في غرفة أخرى، وهلم جرا، كنا طلبة الأدب واللغات وعلم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس وتخصصات أخرى مختلفة وكنا نلتقي حول الكتب الملعونة فنمنحها حياة وتمنحنا أسئلة نتقاسمها وحلماً نعتاش عليه.

ومن بين الكتب التي كانت تنتقل من غرفة إلى أخرى وتبات تحت وسادة ثم أخرى وقد أثثت تكويننا ونقاشاتنا التي لم تكن تتوقف، هي "نقد الفكر الديني" للفيلسوف السوري صادق جلال العظم وهو الكتاب الذي تمت محاكمة الكاتب إثر صدوره عام 1969، وكان هذا الكتاب مؤثراً لما كنا نستشعره من صعود قوى الإسلام السياسي ومعها ثقافة العنف والكراهية والقتل والتي بدأت بوادرها تظهر في الجامعة، وكتاب "الثالوت المحرم (دراسات في الدين والجنس والصراع الطبقي)" لبوعلي ياسين الصادر عام 1973 وكان صوت هذا الكتاب واضحاً في جيل ثقافي وأدبي وسياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد كان لنوال السعداوي حظ في مكتبة الكتب الملعونة، بخاصة كتابها "المرأة والجنس والوجه العاري للمرأة العربية" وقد ترك هذا الكتاب أيضاً أثراً كبيراً في نقاشات الطلبة وذلك مع ظهور أولى الطالبات "المتحجبات"، وبداية تشكيل الصوت النسوي داخل التيار السلفي للإسلام السياسي العنيف.

ومن الكتب أيضاً التي شدت انتباهنا وشكلت جزءاً من قاعدتنا الفكرية والفلسفية كتاب "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" للمفكر حسين مروة الذي اغتاله رصاص الإرهاب في الـ17 من فبراير (شباط) 1987 أمام زوجته.

ومن الكتب الأدبية التي كانت ملعونة في الفضاء العمومي ومحتفلاً بها في فضائنا الجامعي، في غرفنا التي كانت عبارة عن منابر للنقاش والحوار، أذكر رواية "التطليق" La Répudiation لرشيد بوجدرة (صدرت الرواية بالفرنسية عام 1969) وهو نص جريء قلب مفهوم الكتابة الروائية في الجزائر أسلوباً وموضوعاً وكانت ممنوعة في المكتبات الجزائرية.

وكذلك رواية "الخبز الحافي" لمحمد شكري (1935-2003) وهي الرواية التي ظلت ممنوعة في العالم العربي حتى مطلع الألفية الثالثة تقريباً، ولا تزال ممنوعة حتى اليوم في كثير من الجامعات، وقد نشرت بالإنجليزية والفرنسية قبل أن يفرج عنها في لغتها الأصلية العربية، كنا نقرأها في ترجمة بالفرنسية للطاهر بنجلون.

ومن بين تلك الكتب أيضاً كتاب "العسف" L"Arbitraire لبشير حاج علي وهو شاعر ومثقف ومناضل يساري عنيد، سجن بعد الانقلاب الذي قاده هواري بومدين في الـ 19 من يونيو (حزيران) 1965، وألف كتابه هذا لإدانة التعذيب الذي تعرض له، ليطلق سراحه في 1968 ويوضع تحت الإقامة الجبرية في مدينة سعيدة ثم عين الصفراء حتى عام 1974 ليسمح له بدخول العاصمة أخيراً.

كان لهذا الكتاب وقع خاص بالنسبة إلى جيلنا، فمن خلال نصوصه وشهادته تكونت لدينا فكرة عن قمع الدولة الوطنية لمواطنيها وأن ما كان يحلم به الثوار أيام حرب التحرير من حرية وعدالة وديمقراطية تهاوى أمام نظام الدولة الوطنية الجديدة، وكانت قراءة هذا الكتاب مقرونة أيضاً بكتاب آخر هو "السؤال" "La Question" للمناضل الشيوعي هنري عليق الذي ناضل في صفوف الثورة الجزائرية، وصدر عام 1958 ومنع فور صدوره في فرنسا حيث اعتبر الكتاب منشوراً يحبط من معنويات الجيش الاستعماري في الجزائر، إذ إنه يعرض تفاصيل جلسات التعذيب التي تعرض لها المدنيون من قبل الجيش الاستعماري الفرنسي أيام الثورة الجزائرية، لقد علمنا هذا الكتاب درساً مهماً هو أن الحرية قضية إنسانية شاملة والقمع ثقافة وحشية من دون جنسية ولا إقليم.

وكانت هذه الكتب الملعونة في الفضاء العام لا تقرأ في غرفنا بالأحياء الجامعية إلا مصحوبة بموسيقى هي الأخرى كانت ممنوعة أو مقموعة، فكنا ننسخ أشرطة أغاني فرق موسيقية شكلت جزءاً من وعينا الجمالي ونتقاسمها كأشرطة جيل جيلالة و"ناس الغيوان" ومارسيل خليفة والشيخ إمام وخالد الهبر وعزة بلبع وموسيقى فرق الروك والبلوز الأميركية السوداء وغيرها.

قراءة الكتب الملعونة لم تكن منفصلة من جهة عن حلمنا بثقافة جديدة باحثة عن التغيير واحترام سلطة العقل وسيادة التنوير ومن جهة أخرى عن لحظات الفرح بالانغماس في الموسيقى والمسرح الطليعي.

إن الكتب التي تمشي بخطى مرسومة منضبطة كمشية العسكري لا تترك أثراً في قارئها ولا تخلف أسئلة، إنها تولد ميتة.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية-


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-4337.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-04-16 08:04:27