شبكة الأمة برس | بعد "لغم عباس" و"صمت المستشار".. إسرائيل: ماذا عن الالتزام الألماني؟


بعد "لغم عباس" و"صمت المستشار".. إسرائيل: ماذا عن الالتزام الألماني؟

المستشار الألماني شولتس فشل في الاختبار النهائي الذي وضع أمامه في ملعبه البيتي. عندما تحدث الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في مكتب المستشار في برلين عن “خمسين كارثة” ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين، التزم صمت. العدسات وجهت إلى وجهه على أمل أن تستخرج منه إدانة، استنكار، أو على الأقل وجهاً حامضاً. ولكنه وقف بصمت.

“عار في مكتب المستشار”، “فضيحة لاسامية ضخمة”، هكذا انتقدته الصحيفة المشهورة في ألمانيا “بيلد”. “كيف استطاع المستشار أن يصمت؟”، تساءل موقع صحيفة “دير شبيغل” الأسبوعية. “الخطاب المقرف الذي سمع في مكتب المستشار”، هكذا قام بتحديه أحد خصومه السياسيين بشكل مستفز. الإدانة التي نشرها شولتس بتأخير واضح على حسابه عبر تويتر لم تساعد. بالعكس، اعتبرت رفع عتب.

دخل شولتس الآن في كتب التاريخ الألماني لأنه خرق بصمته المدوي ما وصف في “بارلينر تسايتون”، وهي صحيفة ألمانية مشهورة، بـ “الالتزام بالمسألة السياسية في سياسة ألمانيا”، أي التزام ألمانيا غير المتسامح – العابر للحدود الحزبية والسياسية – بتقديس الكارثة وتحمل المسؤولية بشكل كامل وحصري عن جرائم النازيين والتنصل منها وعدم السماح لأحد بإنكار الكارثة على مختلف صورها.

لفهم القصة يجب العودة إلى العام 1965، وهو العام الذي أقيمت فيه العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين إسرائيل وألمانيا الغربية. منذ ذلك الحين وحتى الآن، من المعتاد الحديث عن “ألمانيا الأخرى”، التي حلت محل ألمانيا النازية. نفس هذه ألمانيا الأخرى تحولت بعد ذلك إلى أحد الحلفاء الأكبر لإسرائيل. تم تحسين هذه الصورة خلال عشرات السنين من قبل زعماء في الطرفين، حيث أعلن الألمان التزامهم التاريخي بالشعب اليهودي، وكجزء من ذلك الالتزام بوجود وأمن دولة اليهود، وهي دولة إسرائيل. صفقات شراء الغواصات وغض نظر ألمانيا عن أنها يمكن أن تحمل رؤوساً نووية، ليست سوى مثال على ذلك.

المستشارة الألمانية السابقة انغيلا ميركل، التي مثلت هذه الرؤية خير تمثيل، قامت بتهدئة الإسرائيليين في وسط أوروبا، المليء بالكراهية المتقدة لإسرائيل، وأحياناً لليهود، فللإسرائيليين من يستندون إليه. ولكن هذه السياسة، التي ما زالت حاكمة بشكل رسمي حتى لو كان هناك على الأرض تيارات مختلفة كلياً منذ سنين، هي سياسة إشكالية وتصطدم مع قيم أخرى تؤيدها ألمانيا الحديثة. تقف على رأسها التجربة، الإشكالية بحد ذاتها، لعرض ألمانيا كبوصلة أخلاقية محبة للسلام والتي تقف إلى جانب المضطهدين على أشكالهم والتي تلتزم بحقوق الإنسان.

لكن الحقيقة أن “العلاقات الخاصة” بين الدول لم تمنع ألمانيا والألمان من جميع شرائح المجتمع من توجيه انتقاد لاذع لإسرائيل وإظهار بعض مظاهر اللاسامية أو التعاطف مع أعداء إسرائيل وكارهيها. في السابق، كان هناك من رفعوا حواجبهم استغراباً إزاء نقد ألمانيا لسياسة إسرائيل في “المناطق” [الضفة الغربية]، لا سيما نقدها لتوسيع البناء في المستوطنات. كان هناك من اعتقدوا بأن على ألمانيا تأييد إسرائيل بعين مغمضة وإلى الأبد، وأنه لا يحق لها انتقادها بأي شكل من الأشكال، حتى عندما يكون هذا النقد مطلوباً وحتى إذا جاء من أجزاء واسعة في إسرائيل نفسها.

هكذا كان الأمر على سبيل المثال في 2017 عندما قارن وزير الخارجية الألماني في حينه، زيغمر غبرئيل بين سياسة إسرائيل في المناطق وبين الأبرتهايد في جنوب إفريقيا. أقواله أثارت الغضب الشديد، سواء في إسرائيل أو في قسم من المجتمع الألماني. ولكنها لم تكن زلة لسان. فقد قال أموراً مشابهة في 2012 بعد زيارته كرئيس للحزب، إلى الخليل. نقده لإسرائيل أثار غضب رئيس الحكومة في حينه بنيامين نتنياهو. وفي 2017 قام نتنياهو بإلغاء لقاء له مع غبرئيل في القدس في الدقيقة التسعين، بعد أن قرر الوزير أن يلتقي مع ممثلي “نحطم الصمت” و”بتسيلم”، ولم يوافق على طلبه إلغاء هذه اللقاءات.

أن يقف زعماء ألمانيا إلى جانب إسرائيل في جميع الظروف ليس طموحاً واقعياً. مسؤولية الألمان عن القضاء على الشعب اليهودي وعن إعادة انبعاثه في إسرائيل، التي تمثلت بدفع التعويضات، لم تعد ختماً مطاطياً تلزمهم بالوقوف بصمت إزاء أي قرار أو أي تصريح إسرائيلي. إضافة إلى ذلك، ثمة قيم مثل حرية التعبير وحرية الفرد تسمح لمسلمين متطرفين بالهتاف في مركز برلين “الموت لإسرائيل”، ولأحزاب لاسامية بدخول البرلمان. يبدو أن الخصوصية والمرة الوحيدة التي لا تتكرر للكارثة بقيت مثل أثر أخير، حتى لو كان ضعيفاً ومهتزاً ومشوشاً بحد ذاته، للالتزام الألماني تجاه إسرائيل. ومن وجهة النظر الألمانية، لمواجهة الوصمة السوداء من الماضي. هذا هو سبب الغضب الشديد الموجه الآن لشولتس، الذي شق تصدعات في هذا الالتزام بصورة غير متعمدة.

لا شك أن عباس بسلوكه المحدد والخالي من المشاعر في برلين حقق بالضبط عكس ما كان يمكنه أن يحققه لو اختار كلماته بدقة. لا خلاف على أن جنوداً إسرائيليين ارتكبوا مذبحة في كفر قاسم في 1956، التي ذكرها في أقواله، ضد نحو خمسين عربياً، ولكن لم تكن هناك حاجة إلى كلمة كارثة لوصف خطورتها. بالأحرى، فيما يتعلق بالطنطورة، ما زال هناك نقاش مشتعل بين الباحثين بخصوص ما حدث بالضبط، أثناء محاربة إسرائيل على وجودها في 1948.

لو أراد عباس أن يوجه الأنظار إلى معاناة الفلسطينيين، بالذات في مركز برلين، التي كلها يقدس معاناة اليهود في الكارثة، كان من الأفضل أن يبتعد عن هذا اللغم. مثلاً، كان يمكنه القول بأنه بالتحديد بسبب جرائم النازيين في الكارثة، كان على إسرائيل التصرف بكامل الحساسية تجاه معاناة الشعوب الأخرى، هذه الجملة، حتى الناجين من الكارثة، سيوافقون عليها. من ناحية أخرى، ربما لم يهم عباس النقد الذي وجه له في ألمانيا وفي أرجاء العالم، وأن أقواله وجهت بالأساس للفلسطينيين. ربما أنه تحدث من أعماق قلبه دون أن يراقب نفسه. على أي حال، يبدو أنه وبدون قصد، تسبب بوجع رأس كبير لمستضيفيه الألمان.

يجب الإشارة هنا إلى أمر آخر. قال عباس أقواله البائسة عندما سئل إذا كان يوافق على إدانة مذبحة الرياضيين الإسرائيليين في ميونيخ بمناسبة الذكرى الخمسين على حدوثها. حتى في هذه الحالة تتحمل ألمانيا مسؤولية كبيرة. ولكن خلافاً للكارثة، ما زالت في هذه المسألة بعيدة عن الاعتراف بمسؤوليتها. ومثلما كشفت وثائق الأرشيف في السنوات الأخيرة، مشاركة ألمانيا في قتل الرياضيين لم تقتصر على حدوثها في ميونيخ. إلى جانب مشكلات الحماية، التي وصفت أحيانا بأنها شكلية ولكن فعلياً كان هناك إخفاقات استخبارية بدرجة كبيرة، قلائل يعرفون أن ألمانيا تصرفت عمداً بتسامح وحتى بتعاطف مع الإرهابيين الفلسطينيين في ذلك الهجوم. وقد فعلت ذلك لإبعاد نفسها عن النزاع في الشرق الأوسط والحصول على الهدوء في شوارعها.

إن صمت شولتس خطير بنفس القدر، لكن حقيقة أن هذا حدث بشكل علني أمام العدسات وفي بث مباشر، تجعل الكثير من الألمان الآن يتحركون بحرج، على الأقل لجزء منهم كان من الأفضل لو أنهم هزوا الرأس موافقة من وراء أبواب مغلقة، وأدان هذه الأقوال تجاه الخارج.

 

بقلم: عوفر اديرت

هآرتس 18/8/2022


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-3730.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-04-18 02:04:15