شبكة الأمة برس | "رمتني بدائها وانسلت"... الدول المستهلكة أكبر محتكر في أسواق الطاقة


"رمتني بدائها وانسلت"... الدول المستهلكة أكبر محتكر في أسواق الطاقة

أصبح التشدق بـ"المنافسة" في الأسواق ديدن الساسة الغربيين والبعض في الشرق، خصوصاً عند الحديث عن "أوبك" ودورها، إلا أن الواقع يشير إلى أن أسواق النفط والغاز والكهرباء وكل مصادر الطاقة الأخرى أبعد ما تكون عن المنافسة.

سوق المنافسة هي سوق حرة فيها عدد كبير من البائعين والمشترين، ومن دون تدخل حكومي. لكن لننظر إلى أسواق النفط، حتى من دون "أوبك":

1- تاريخياً، سيطرت حكومات ولايات تكساس وأوكلاهوما ولويزيانا لعدة عقود، على كميات الإنتاج في حقول الولايات النفطية، مع أن احتياطيات النفط ملكية خاصة، والشركات المنتجة شركات خاصة. واتفقت هذه الولايات مع الحكومة الفيدرالية على إنشاء هيئات خاصة سنّت قوانين للسيطرة على الكميات المُنتَجة، وعندما رفض المنتجون وقف أو تخفيض الإنتاج، تم إرسال قوات الحرس الوطني المدججة بالسلاح، واحتلت الحقول في تكساس وأوكلاهوما، وأوقفوا الإنتاج بالقوة، ثم تم وضع مراقبين حكوميين لمراقبة المنتجين ومنعهم من الإنتاج فوق حد معين، تحت طائلة عقوبات تتضمن السجن وغرامات كبيرة.

2- مع سيطرة حكومات الولايات على الإنتاج الأميركي تمكنت شركات النفط الكبرى، بعد التنسيق بينها من جهة، ومع حكوماتها من جهة أخرى، من السيطرة على إنتاج النفط العالمي لعدة عقود. ونتج من ذلك ما يعرف باتفاقية الخط الأحمر و"الأخوات السبع". وعند حصول أي خلاف بين الشركات وحكومات الدول المنتجة للنفط، تدخلت السفارات الأميركية والبريطانية لدعم موقف الشركات، وتم في بعض الأحيان استخدام القوة العسكرية.

3- عندما أمم محمد مصدق صناعة النفط الإيرانية، وثارت ثائرة البريطانيين، واعتبروا أن من يشتري النفط الإيراني يشتري نفطاً مسروقاً، تم اللجوء للمحاكم الدولية. وعارضت المحكمة الدولية بريطانيا، وأيدت موقف حكومة مصدق، لأن العقود التي وقعها الشاه تمت بالإكراه عندما كانت إيران تحت الاحتلال البريطاني. فخالفت بريطانيا القانون الدولي والأعراف الدولية، وأرسلت بوارجها البحرية إلى مضيق هرمز وبحر العرب، وأوقفت بالقوة كل السفن المحملة بالنفط الإيراني وسيطرت عليها!

ثم نظم الأميركيون انقلاباً على محمد مصدق، وأعادوا الشاه للحكم بجلبه من روما إلى طهران (للمفارقة فقط، تم جلب الخميني من باريس إلى طهران)، وأجبروه على توقيع اتفاقية نفطية تجعل شركات النفط العالمية المحتكر الوحيد للنفط الإيراني، وتضمنت بنوداً تمنع الحكومة الإيرانية من الاطلاع على الدفاتر المحاسبية للشركات! باختصار، حتى الحكومة الإيرانية لم تكن تعرف كمية الإنتاج، ولا كمية الصادرات، ولا الأسعار، ولا الأرباح!

4- في السبعينيات، ومع تلاشي دور الأخوات السبع والهيئات المشرفة على الإنتاج في كل من تكساس ولويزيانا وأوكلاهوما، بدأت الحكومة الأميركية "الرأسمالية" بتحديد أسعار النفط والغاز، بصورة طبق الأصل عما كانت تفعله الحكومات الشيوعية في الاتحاد السوفياتي والصين وأوروبا الشرقية آنذاك.

5- تم تحرير أسواق النفط والغاز ووقف التسعير الحكومي في الولايات المتحدة في بداية الثمانينيات، ولكن بعد تطوير حقول النفط في ألاسكا وبناء خط أنابيب ألاسكا الشهير، وبعد تطوير حقول بحر الشمال بين بريطانيا والنرويج ودول أخرى. عندها ألقت الكرة في ملعب "أوبك"، التي لم يكن لديها القدرة على إدارة السوق، لعدم وجود حصص إنتاجية أو أي قدرة على إدارة السوق، فانهارت الأسواق، وانهارت أسعار النفط معها. المفروض في هذه الحالة أن ترتفع معدلات النمو الاقتصادي في الدول الصناعية، ويرتفع الطلب على النفط، وتعاود الأسعار ارتفاعها، ولكن الدول الصناعية فرضت ضرائب عالية جداً لمنع أسعار المنتجات النفطية من الانخفاض، ومن ثم منعت "الأسواق الحرة" من أن تقوم بدورها.

6- هناك قوانين صارمة جداً في الدول الصناعية تحكم صناعة النفط والغاز. هذه القوانين تمنع صناعة النفط من التجاوب مع تغيرات الأسعار، كما هو معروف في الأسواق الحرة، ومن ثم لا تستطيع الصناعة زيادة الإنتاج مع ارتفاع أسعار النفط والغاز.

7- مع دخول موضوع التغير المناخي على الخط، تبنت حكومات الدول الصناعية سياسات تقيد من حرية التجارة في النفط والغاز، كان من أهمها وقف أنابيب النفط بين كندا والولايات المتحدة. كما دخلت السياسة على الخط، حتى قبل الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا، وأوقفت خط "نورد ستريم 2"، الذي ينقل الغاز مباشرة من الحقول الروسية إلى ألمانيا من دون المرور بأراضي دول أخرى.

8- انعدام الأسواق الحرة بسبب التدخل الحكومي لا يقتصر على أسواق النفط، بل يمتد لكل ما له علاقة بالطاقة، أسعار الكهرباء والغاز تحددها كثير من الحكومات المركزية أو المحلية في أغلب الدول الصناعية، كما أن عدداً من الحكومات تعطي أفضلية لبعض مصادر الطاقة بقوة القانون، وهذا يتنافى مع مبدأ الأسواق الحرة.

وطالما أننا تكلمنا أعلاه عن فرض الضرائب على المنتجات النفطية، وكيف أنها تتنافى من مبدأ الأسواق الحرة، فإنه لا بد من تذكير القارئ بأن الإعانات الضخمة، التي تقدمها هذه الحكومات لمشاريع الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية تتافى أيضاً مع مبادئ السوق الحرة!

وكانت بلدية مدينة دالاس قد قررت أن تعطي أولوية لسيارات الأجرة العاملة بالغاز الطبيعي في مطار دالاس، بحيث يستطيع سائق سيارة الأجرة العاملة بالغاز الطبيعي تخطي خط الانتظار الطويل وحصوله على الدور الأول، فقط لأن سيارته تعمل بالغاز. وكان هدف البلدية تشجيع سيارات الأجرة على التحول إلى الغاز، ونتج من ذلك إضراب سائقي سيارات الأجرة المتضررين، الأمر الذي أدى إلى إلحاق الضرر بآلاف المسافرين الذين لم يجدوا سيارات أجرة من وإلى المطار. وانتهى الأمر بالمحكمة، التي حكمت ضد البلدية، وعادت الأمور إلى مجاريها. المقصود هنا أن القوانين الحكومية، حتى المحلية، تحد من المنافسة ووجود أسواق حرة.

8- أخيراً، علينا أن لا ننسى العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على عدد كبير من الدول النفطية، التي تتنافى مع فكرة "الأسواق الحرة"، و"أسعار النفط المنخفضة"، و"الانخفاض في ذبذبة الأسعار". فقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات على كل من إيران والعراق وفنزويلا والسودان وميانمار، وليبيا، وسوريا، كما هددت بفرض عقوبات على نيجيريا.  وفرضت عقوبات على روسيا منذ سنوات، وزادتها بعد الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا.

خلاصة القول إن محاولات الساسة الأميركيين تغيير قانون مكافحة الاحتكار، بحيث يغطي الدول ذات السيادة، بحجة ارتكابها تصرفات تتناقض مع حرية الأسواق، يتناقض مع كل ما يقومون به في أرض الواقع. فأسواق النفط والغاز ليست حرة، حتى لو تلاشت "أوبك" من الوجود، بسبب القوانين التي سنتها هذه الدول، التي تتضمن التحكم بالتسعير بطريقة أو بأخرى، بما في ذلك الضرائب العالية. ولا يمكن أن نتجاهل في هذا السياق تهجم الحكومة الهندية على الحكومات الخليجية واتهامها لها برفع الأسعار، والضرائب التي فرضتها الحكومة الهندية على المنتجات النفطية هي الأعلى في العالم الآن! وصدقت العرب عندما قالت "رمتني بدائها وانسلت"!

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس – اندبندنت عربية-


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-3476.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-04-19 04:04:06