شبكة الأمة برس | تحولات فرنسا الراهنة: من اليعاقبة إلى «زيمورستان»


تحولات فرنسا الراهنة: من اليعاقبة إلى «زيمورستان»

كما كان منتظَراً، أعلن الكاتب والصحافي الفرنسي إريك زيمور ترشيحه للانتخابات الرئاسية التي ستشهدها فرنسا في نيسان (أبريل) المقبل، ولم تغب عن نصّ الترشيح سلسلة الآراء والأفكار والمطالب التي جعلت منه أحد أسوأ شخصيات اليمين المتشدد العنصري في فرنسا المعاصرة؛ ومكّنته، استطراداً، من تصدّر الموقع الآخر الأثير: أنه الأشدّ صراحة في إبداء عنصريته، والأوضح تعبيراً عن الرهاب من الآخر وكراهيته واحتقاره وتحقيره، والأمهر في دغدغة مشاعر مماثلة تخشى الإفصاح عنها شرائح متنوعة في صفوف اليمين التقليدي/ الجمهوري/ الديغولي واليمين المتطرف على منوال تياراته الكلاسيكية في فرنسا وأوروبا.
في المقابل، ما لم يكن منتظَراً على نطاق واسع، ولعله باغت البعض من زاعمي «الخبرة» في شخص زيمور، أن يأخذ إعلان الترشيح تلك الصيغة الخاصة: اعتماد ديكورات صارخة الرموز، تحاكي خطبة الجنرال دوغول التي دعت إلى مقاومة الاحتلال النازي، وتبدأ من الميكروفون القديم ولا تنتهي عند رفوف الكتب المجلدة العتيقة في الخلفية؛ ثمّ القراءة من نصّ مكتوب بدل الارتجال (رغم لغة زيمور البلاغية والعالية المميزة)؛ وتفادي النظر المباشر إلى العدسة، وبالتالي ملاقاة الفرنسيين بَصَراً لبصر؛ وحشر الفيديو بمشاهد نساء محجبات وأناس سود في المترو وأجانب منخرطين في شجارات وأعمال عنف؛ وأخيراً، وليس آخراً في الواقع، اختيار سيمفونية بيتهوفن السابعة، البونابارتية التي تُعرف أيضاً باسم «التحرير».
ولن تمرّ إلا حفنة دقائق بعد بثّ شريط الترشيح عبر وسائل التواصل الاجتماعية، حتى تعاقبت الاستنكارات من جميع الجهات التي انتهك زيمور حقوق المؤلف لأعمالها، سواء على صعيد الصور والمشاهد، أو الديكور بصفة عامة؛ على غرار لايتيسيا هوليداي، أرملة المغني الراحل جون هوليداي، التي أعلنت أنها سترفع دعوى ضدّ زيمور لأنه حشر اسم زوجها في نصّ ترشيحه. ولم يكن مدهشاً أنّ صحافياً وكاتباً، ولكنه اليوم مرشح لرئاسة فرنسا أيضاً، لم يجد في تبرير تلك الانتهاكات سوى أنها مجرّد «نسيان»؛ مثلما لم يُدهش كثيرون لأنه لم يجد دفاعاً عن رفعه الإصبع الوسطى في وجه سيدة، خلال زيارة إلى مرسيليا، سوى أنه قوبل هناك بكثير من المضايقات.
هذا، في كلّ حال، مواطن فرنسي يهودي ولد لأبوين من الجزائر، وترعرع في ضواحي العاصمة باريس، ولكنه لا يكره الأجانب وحدهم فقط، بل يستفزّ اليهود لأنه ينزّه الماريشال الفرنسي فيليب بيتان الذي تعاون مع الاحتلال النازي في ترحيل اليهود وحُكم عليه بالخيانة العظمى بعد الحرب؛ بل يضيف إلى التنزيه أنّ الماريشال على العكس: أنقذ اليهود! وهذا كاتب وصحافي اقتيد مراراً إلى المحاكم بتهمة العنصرية ونشر الكراهية، وهو يدعو إلى طرد العرب والمسلمين والسود لأنهم، أجمعين، لصوص ومجرمون وقتلة؛ مثلما يطالب بإعادة عقوبة الإعدام لمحاسبة أمثالهم، وبمنعهم من إطلاق أسماء «أجنبية» أو «غير فرنسية» على مواليدهم. وهو أعلن صراحة، وكتب، أنّ راتب المرأة لا يجوز أن يتساوى مع راتب الرجل بسبب انعكاس الاختلاف الفيزيولوجي بينهما على سوية الأداء في العمل؛ كما حثّ على إعادة تحريم الإجهاض قانونياً، وإلى حظر العلاقات بين مثليي الجنس…
وحين ألمح زيمور إلى أنه ينوي الترشيح لرئاسة فرنسا، ثمّ قالت أولى استطلاعات الرأي أنه يمكن أن يتقدّم على مرشحة اليمين المتشدد التقليدي مارين لوبين، انقلب الرجل من كاتب سجالي وصحافي عنصري الأهواء ومرشّح محتمل إلى طفرة إعلامية ساحقة ماحقة، كما يصحّ القول عملياً وكما تبرهن المعطيات: لم يتصدر غلاف مجلة «فالور أكتويل» اليمينية خمس مرّات خلال تسعة اشهر من هذا العام فقط، بل ظهر على أغلفة الغالبية الساحقة من الدوريات الأسبوعية والشهرية الفرنسية أياً كانت توجهاتها على اليمين أم اليسار أم الوسط؛ ولم يصبح مادّة يومية في قناة CNews، التي يعتبرها الكثيرون «فوكس نيوز» فرنسا، فحسب؛ بل يسجّل موقع Acrimed المختصّ برصد محتويات وسائل الإعلام أنه صار إدماناً يومياً في جميع الأقنية والإذاعات والمواقع الإلكترونية، وبمعدّل 4167 مرّة خلال شهر أيلول (سبتمبر) وحده؛ حتى أنه كان الموضوع في قناة BFM يوم 9 من الشهر ذاته على المدار الزمني التالي: 6.50، 8.30، 10.30، 11.40، صباحاً؛ و12.00، 18.00، 19.00، 20.00، 21.00، 22.00، ظهراً ومساء وليلاً.


وقد يساجل البعض، محقاً على نحو جزئي فقط، بأنّ هيمنة زيمور على وسائل الإعلام راجعة إلى ما يحظى به من تأييد الملياردير الفرنسي فنسان بولوريه، الذي يملك، أو يشكّل أغلبية متحكمة داخل مجموعة «فيفندي» الإعلامية، في وسائل مرئية أو مسموعة (Canal+، CNews، إذاعة أوروبا 1…) ومقروءة («جورنال دي ديمانش» «باري ماتش» وقريباً «لو فيغارو» كما يتردد). ولم يعد خافياً أن قناعات بولوريه تصبّ إجمالاً في خانة اليمين المتشدد، لكنّ استقراره على زيمور بدل لوبين وحزب «التجمع الوطني» يعطي إشارة بالغة المعنى لجهة تفضيل المليارات الفرنسية؛ يتوجب أن تتكامل مع المؤشرات الأخرى السوسيولوجية، أو غير المالية والمصرفية والاستثمارية، لجمهور اليمين المتطرف في فرنسا، وفي أوروبا عموماً.
كذلك يحدث أن يكتفي البعض بتصريف زيمور تحت عنوان شبه وحيد، ولكنه أحادي تماماً في الواقع، هو انجذاب الإعلام إلى رجل/ طفرة، صار ظاهرة سريعاً أخذت تهدد الموقع الثاني الذي يحتله اليمين المتطرف في الحياة السياسية الفرنسية؛ وأنّ الأقنية والإذاعات والصحف والدوريات إنما تنجذب إلى ما انجذبت إليه نسبة 17٪ من مؤيدي زيمور. هذا صحيح بالطبع، حتى بعد أن أخذت معدلات تأييد زيمور تتقلص، وعاد إلى موقع رابع بعد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ولوبين نفسها والمرشح المحتمل لليمين الجمهوري الديغولي؛ إلا أنّ الأصحّ في قلب هذا الصحيح هو أنّ أفكار زيمور لم تهبط من علٍ على حين غرّة، وجذورها تضرب عميقاً في التربة ذاتها التي أنبتت سلسلة من الشخصيات والمواقف والعقائد داخل مختلف تيارات اليميني الديغولي/ الجمهوري.
ويمكن للمرء أن يدع جانباً شخصية مثل إريك سيوتي، القيادي في حزب «الجمهوريين» وأحد ستة تنافسوا على بطاقة الحزب وقد استحق لقب «زيمور الجمهوريين» لأنه سعى إلى مجاراة زيمور الأصلي في الإعراب عن كراهية الأجانب والإسلام والمسلمين، وحلّ أوّلاً في تصويت الجمهوريين يوم أمس؛ إذْ تصحّ العودة إلى نطاق أوسع، وأبعد في المكان والزمان، نحو تلك الجذور في تلك التربة. في عبارة أخرى، هذه الـ»زيمورستان» كما يميل البعض إلى التعبير، ليست من طراز الفطر الشيطاني الذي نبت فجأة بسبب أو من حول زيمور وأفكاره؛ ليس لأنها عتيقة متأصلة وتكررت هنا وهناك لدى هذا أو هذه من رجالات اليمين الفرنسي التقليدي فقط، بل أساساً لأنها تمثّل شريحة سوسيولوجية، نظيرة لشريحة إيديولوجية، قابلة للصعود أو الهبوط طبقاً لسياقات شتى متنوعة.
و»زيمورستان» هذه تستبدل فرنسا بلد اليعاقبة والأنوار والثورة الفرنسية، وبات أحد أشغالها الشاغلة متابعة الصراع بين لوبين وزيمور وسيوتي في ترصّد الأجانب والسود والمهاجرين والعرب والمسلمين، والحملقة في ما يكمن وراء الأكمة من أخطار ناجمة عن عباداتهم ولباسهم وطعامهم ولهجاتهم. الغائب الأكبر في هذه الوقائع هي الأبعاد السياسية والثقافية والتاريخية والاجتماعية لظواهر (لأنّ من السخف اعتبارها محض ظاهرة واحدة متماثلة متطابقة) معقدة شائكة متباينة ليس من الحكمة أبداً ردّها إلى باعث عقائدي أو اقتصادي أو سوسيولوجي أو رهابي واحد.

* كاتب وباحث سوري يقيم في باريس


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-3001.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-03-29 11:03:27