شبكة الأمة برس | ابتكار الثقافات


ابتكار الثقافات

يبقى العقل البشري أكثر «آلة» على وجه الأرض ابتكارا لأنواع الحياة فوق هذه البسيطة، ولن تتوقف عن خلق ثقافات جديدة حتى يرث الله الأرض وما عليها، وليس غريبا حتى في قمة إحباطنا أن نشعر بأنه آلة حية ضمن منظومة كونية عظيمة، لا تتوقف عن التطور ولكنّها تحتاج فقط لبعض الوقت لإدراك محيطها ومتطلباته، وإيجاد منافذ جيدة إلى ثرواته وطرقٍ لاستغلالها والاستفادة منها.

تلك الغريزة التي نُطلق عليها اسم «غريزة البقاء» هي بالأحرى بذرة الحياة التي تغذّي العقل ليبتكر وسائله من أجل أن يبقى حيا، وثمة أسرار أعظم من أن نكتشفها الآن تكمن كلها في عقولنا المحمية بقوقعات عظمية تسمّى الجمجمة.

نذهب بهذا الطرح الفلسفي إلى معطى بعيد الأفق، قاعدته الأساسية سؤال واحد، هل العقل منبت الثقافات؟ أم جغرافية المكان وطبيعته؟ من يلاحظ عملية تشريح الجسد يسهل عليه أن يرى أن العظام تشكل الهيكل الأساسي لبناء الإنسان، تكسوها العضلات التي يغطيها الجلد، لكن الدماغ هو الذي يتوسط الجمجمة التي تحميه، وهو أهم جزء في الجسم، فهو المحرّك لكل أعضائه، والعقل المفكر. الاهتمام بهذا الجزء من جسم الإنسان لديه خبراؤه من أطباء الدماغ والأعصاب، ولكن ما حدث منذ سنوات من اكتشاف جمجمة كاملة تحتوي على نسيج دماغي سليم في منطقة هسلنغتون في بريطانيا تعود لـ2600 سنة، فتح أبوابا كبيرة لأسئلة ظلت بدون أجوبة طيلة عصور.

فقد وجد فريق من الباحثين الدوليين مؤخرا طريقة جديدة للكشف عن سر بقائه محفوظا بشكل جيد في بئر، نشرت عبر دراسة في مجلة «واجهة المجتمع الملكي» معزين ذلك إلى أن أصل ذلك الحفظ مخفي في أعماق الدماغ نفسه.

نعرف جيدا من خلال ما أثبته العلم أن كل الأنسجة الحية تنتهي بعد الموت، وتتحوّل لغبار، لكن الباحثين الذين درسوا عينات مأخوذة من الكتلة الصفراء والبنية بنسيج مماثل لنسيج «التوفو»، سلطت ملاحظاتهم الضوء على وجود أكثر من 800 نوع من البروتينات، بدا معظمها طبيعي، ويبدو أنها لعبت دورا حاسما للحفاظ على الدِّماغ، لصاحبها الذي عُرِف أنه ذكر في الثلاثينات من عمره.

لإقحامهم تشبيه نسيج الدماغ بالتوفو، سأشرح أنه عجينة من البروتينات النباتية، تحضر عادة بتخثير فول الصويا المطحون مع الماء وأملاح معينة تحت تأثير حرارة عالية، وهو بديل جيد للحوم للذين يتبعون أنظمة غذائية نباتية، وهذا موضوع آخر. المدهش في الحكاية أن تلك البروتينات المكتشفة، مثلت ما يشبه الهيكل العظمي الذي بنيت عليه أنسجة الدماغ، وفي حالة الموت، انكفأت على ذاتها، وتحوّلت إلى ما يشبه مجاميع صغيرة، أو قواقع لحماية نفسها بنفسها.

ولأن العلم أثبت سابقا أن خلايا الجسد الميت بما فيها الدماغ تتحلل بواسطة أنزيمات تفرزها الجثة نفسها، فإن نتيجة البحوث على جمجمة هسلنغتون تكشف أولا أن الجمجمة وجدت في البئر، بدون أي أثر لباقي الجثة، ثانيا أن لا أثر لتلك الأنزيمات المدمرة لنسيج الدماغ، وهي في الغالب تُفرز خلال الثلاثة أشهر التي تلي الوفاة.

   نحن الوحيدون الذين نتقاتل من أجل أشخاص ماتوا منذ أكثر من ألف عام، متوقفين على هضبة من الأفكار التي لم تتجدد، ولا نسعى لتجديدها

هذا الاكتشاف العظيم أنار النفق المظلم أمام علماء الأعصاب والأمراض المستعصية مثل الزهايمر وغيرها، بل أن نور الفكرة العظيمة المُكتشفة امتد إلى إرجاع قوة الذكاء والابتكار إلى نوعية وكمية هذه البروتينات في النسيج الدماغي، ومدى نشاط تلك الأنزيمات خلال حياة الإنسان ليصاب بخمول دماغي أيا كان نوعه. هذا الاكتشاف أيضا يفتح الأبواب أمام تنوع النتاج الثقافي، الذي يصحب معه تنوعا تكنولوجيا وتقدما في أنماط الحياة، ما يرفع شعوبا ويهوي بشعوب في أوحال التخلّف، وهو ما يجعلنا نعود لموضوعنا أعلاه، ونطرح السؤال، هل مشكلة الشعوب البدائية المقاتلة المعادية للتطور والابتكار هي في الحقيقة مشكلة بروتينات وأنزيمات؟ لا شك في أن المثقف لا يطرح أسئلة كبيرة كهذه، ولكنّه في الغالب يكتفي بطرح الموضوع من جانبه الإنساني، فالكائن البشري واحد في كل التجمعات التي يؤسسها، وتتحوّل مع الزمن إلى مجتمعات مختلفة جغرافيا وثقافيا، فلماذا هذا النفور والرّفض لذلك الاختلاف ذي المنشأ الواحد؟ حتى معالجة العداء الذي يبلغ درجة القتل وإقصاء الآخر، لا نجد له سبيلا بمخاطبة العقل. ثمة شيء يعطّل الأدمغة ويحوّلها إلى قنابل موقوتة تنفجر بمجرد ملامستها فكرة مختلفة!

هل لي بالعودة بكم إلى مقال سابق كتبته سابقا عن»كيمياء المخ» آمل أن فكرتي التي طرحتها لإيجاد تفسير لعلاقات الحب والكراهية بين الإنسان وأخيه الإنسان، حسب معطيات علمية، لها مرجعية أقوى من أي طرح نظري اليوم، فقد أثبت العلم على الأقل أن الكتلة البروتينية التي نحملها في جماجمنا ليست أكثر من «مختبر كيميائي» صغير تتفاعل فيه عناصر معينة لتجعلنا ما نحن عليه.

يا إلهي .. إن خبرا كهذا قد يضعنا أمام معطيات أخرى، فالسباق الذي دخلت فيه الدول العظمى من أجل التقاط أدمغة الشعوب المشغولة بتدمير ذاتها، سباق قمة في الذكاء، يستحيل أمامه أن نستعيد عافيتنا ونحن نستنزف أدمغتنا المفكرة المبدعة. لكن كيف استعادت هذه الأخيرة عافيتها؟ كيف أدركت بعد حروب طاحنة أن الحياة تستحق أن تعاش بقليل من الهدوء وخطة لتقبل الاختلافات وتخطي الخلافات؟ ثمة شيء آخر يُطرح، هل الأدمغة التي تدير حلبة القتال الذاتية هذه أدمغة معطوبة، تعمل أنزيماتها بنشاط يفوق العادة، ما جعل رغبة التدمير تتحول لديها إلى سلوك عادي وفق طبيعتها؟

يخيفني أن أفكّر في أمر كهذا، لكنّه تبادر إلى ذهني بمجرد متابعتي لخبر جمجمة هسلنغتون، ونتائج أبحاث فريق العلماء الذين توغلوا في التفصيلات الدقيقة لتكوينها وبقائها سليمة، إن الأمر سهل لتصحيح طريقة تفكير البشر، ربما بحقنه بهرمونات على شكل لقاحات موسمية، وربما بمكونات تضاف للأغذية المعلبة، وربما بطرق أخرى .. يمكن لفكرة المؤامرة أن تتولّد من هذه المعطيات، كما يمكن لأفكار أخرى أكثر تعقلا أن تؤثر في بروتيناتنا المتصارعة في أدمغتنا لجعلها أقلّ هياجا، وأكثر إنتاجا، إذ أن السبب في هذا الغليان الذي لا يتوقف مرتبط حتما بطنجرة الضغط التي نعيش فيها، والتي لا تتوقف صفّارتها عن الدّوران، هي بالضبط العالم الذي يوهمنا أننا في خطر من الآخر بمجرد اختلافه عنّا، فهل يمكن لآلية التفكير كلها أن تتغيّر، إن أدركنا أن مشكلتنا مشكلة ثقافات وليس مشكلة بقاء؟ وإن أي ثقافة تطغى على الأخرى، إنّما بمحتواها الدّاعم للحياة وليس العكس، وإن التنافس الثقـــافي ليس تنافسا من أجل بركة ماء، لجماعة ضاعت في الفلاة، فقد أخذت الحروب أشكالا مختلفة بعد أن تحوّل العالم إلى قرية صغيرة، وتحوّل الصراع من أجل أفكار ينتجها العقل، على الأقل هذا يفسر كل حروبنا الداخلية، التي اشتعلت بين أهالي الوطن الواحد في أكثر من رقعة، فهي لا تحسم خلافا، ولا تنهي صراعا، فكلما تعب الطرفان عقدا هدنة مؤقتة، تنام فيها الأدمغة المتعبة، قبل الاستيقاظ مرة أخرى لبدء مرحلة جديدة من التراشق القديم نفسه. نحن الوحيدون الذين نتقاتل من أجل أشخاص ماتوا منذ أكثر من ألف عام، متوقفين على هضبة من الأفكار التي لم تتجدد، ولا نسعى لتجديدها…

فرجاء خذوا أدمغتنا للدراسة واعطونا تفسيرا وحلا لهذا العطب الأبدي، الذي عطّل كل عمليات التفكير لإنتاج ثقافة جديدة تنتشلنا من ثقافة التدمير الذاتي التي لا نزال مستسلمين لها!

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-294.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-04-25 04:04:56