شبكة الأمة برس | السلام الإقليمى الجديد!


السلام الإقليمى الجديد!

لم تكن المصادفة وحدها هى التى جمعت بين دعوتين كريمتين لى للمشاركة فى حلقتين نقاشيتين، واحدة منهما كانت افتراضية، قبل أسبوع، من المعهد الملكى للعلاقات الدولية، المعروف باسم «شاتام هاوس Chatham House»، والأخرى هذا الأسبوع من مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية فى عمان.

الأولى كانت تنظر فيما رأته نوعًا من تراجع التصعيد فى الشرق الأوسط، والثانية كان عنوانها «الشام الجديد»، وتنظر فى ظواهر جديدة للعلاقات بين مصر والأردن والعراق تقوم على أشكال من العلاقات تسعى إلى تجاوز آثار ما حدث فى المنطقة قبل عقد من الزمان أو بعد ما سُمى أحداث «الربيع العربى»، التى بعدها تفجرت المنطقة إلى حروب أهلية وإرهابية وإقليمية أيضًا. بالنسبة لكلا الحدثين بين عمان ولندن، فإن التساؤلات عما إذا كان الحادث يمثل مجرد وقفة مؤقتة، أو أنه يعبر عن «ترند Trend» سوف يكون له قدر من الديمومة والعمق، الذى يمثل اتجاهًا نحو حالة من السلام فى المنطقة.

والحقيقة أن الأمر ليس أكاديميًا فقط تبحث فيه مراكز البحث والجامعات عن التغيرات الجارية فى منطقة كانت قد وصلت فى درجة توترها واشتعالها إلى مستويات تاريخية اعتبارًا بعدد ضحاياها وجرحاها وما أتى منها من لاجئين ونازحين، إلى تدمير مدن ودول، فهناك ما هو أكثر، حيث تحاول فيه دول كثيرة بشكل منتظم بعضها داخل الإقليم وبعضها خارجه انتهاز ما يبدو وكأنه فرصة لعكس الاتجاه، الذى ساد على نحو عقد كامل إلى العنف، فى اتجاه التهدئة والسلام.

الولايات المتحدة على سبيل المثال تحاول الجمع بين ما توصل إليه رئيس الولايات المتحدة السابق دونالد ترامب مما سُمى «السلام الإبراهيمى» و«تعميقه» و«توسيعه».

.. المعادلة يقودها أنتونى بلينكن، وزير خارجية الرئيس بايدن، لكى يدفع العلاقات القائمة على معاهدات للسلام لكى تمضى فى طرق أكثر اتساعًا فى التعاون والإشهار والاعتياد على حقيقة السلام، أما التوسيع فيقوم على ضم أطراف جديدة إلى السلام مع إسرائيل.

ومن أجل ذلك حاولت إدارة بايدن أن تعطى قدمًا للفلسطينيين فى المستقبل من خلال استئناف العلاقات بين واشنطن ورام الله، وعودة القنصل الأمريكى إلى شرق القدس، واستئناف المساعدات لوكالة غوث اللاجئين والسلطات الفلسطينية، والتعاون مع مصر من أجل التفاوض بين الفلسطينيين وبينهم وبين إسرائيل وتعمير غزة. هذا التوجه بشكل عام كان مشجعًا للأطراف الإقليمية على القيام بإجراءات لقيام الثقة، منها أنه رغم التعقيد الشديد لمركب الحكومة الإسرائيلية، فإنها سمحت لوزراء فيها باتصالات مع السلطة الوطنية الفلسطينية والاتفاق على أشكال من تحسين الأحوال الفلسطينية، بما فيها إعطاء شهادات الإقامة فى القدس لآلاف المقيمين فيها، والسماح لأكثر من ألفين من الفلسطينيين فى غزة بالعمل فى إسرائيل، مع تسهيلات فى نقل الكهرباء والصيد فى البحر المتوسط. وضمن هذا الإطار، جرت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى للقاء مع الرئيس السيسى فى مصر، وقيام شركة الطيران المصرية برحلات، لأول مرة فى تاريخ العلاقات بين البلدين، إلى مطار بن جوريون.

الدول الإقليمية خارج الإطار الفلسطينى والعربى والإسرائيلى مضت فى خطوات أخرى لاستئناف العلاقات المقطوعة والمتوترة لسنوات من قبل. واستنادًا إلى بيان العلا، الصادر عن اجتماع قمة مجلس التعاون الخليجى، جرى استئناف العلاقات بين مصر والإمارات من ناحية وقطر من ناحية أخرى؛ وكلتيهما وتركيا من ناحية ثالثة. عمليات استئناف العلاقات اختلفت بين كل حالة وأخرى، ولكنها أدت كلها إلى تراجع احتمالات الصراع والمواجهة كما كان ممكنًا بين القاهرة وأنقرة سواء كان ذلك خاصًا بمنطقة شرق البحر المتوسط أو فيما يتعلق بليبيا. المسارات الدبلوماسية بين هذه الأطراف صارت فيها مسارات للدفء بعضها استئناف السفارات لعملها، وشركات الطيران لطيرانها، أو الدفع بالعلاقات الاقتصادية القائمة إلى العمل فى ظل مناخ أكثر ودًا.

وبعد عقد من تصويت جامعة الدول العربية على تعليق عضوية سوريا فى بداية الحرب الأهلية السورية، تتابعت إشارات الترحيب بعودة سوريا مرة أخرى إلى الجامعة. العاهل الأردنى، الملك عبدالله الثانى، أول زعيم عربى دعا الأسد إلى الاستقالة فى عام ٢٠١١، تحدث معه، لأول مرة منذ اندلاع الصراع، وأعاد مؤخرًا فتح المعبر الحدودى الرئيسى للبلدين للمساعدة فى تعزيز التجارة. والتقى وزير الخارجية المصرى بنظيره السورى فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتعهد بالمساعدة فى «استعادة مكانة سوريا فى العالم العربى».

وأعلنت الإمارات العربية المتحدة، الأحد الماضى، موافقتها على تعميق التعاون الاقتصادى مع سوريا. ويبدو أن كل هذه الخطوات تلقى الكثير من الدعم الدولى، خاصة من الولايات المتحدة التى أقر الكونجرس بها قانونًا فى عام ٢٠١٩ يُعرف باسم قانون قيصر، الذى يتطلب من الولايات المتحدة معاقبة المسؤولين والكيانات السورية المسؤولة عن الفظائع، وكذلك الجهات الفاعلة التى تدعم النظام.

ولكن إدارة بايدن لا تبدو متمسكة بالقانون، وبعد مجموعة واحدة من العقوبات، فإنها نظرت إلى الناحية الأخرى تجاه إعلان الإمارات أنها الشريك التجارى الأبرز لسوريا، ومن ناحية أخرى دعمت مؤخرًا صفقة توجيه الغاز المصرى إلى لبنان- الذى يعانى انقطاع التيار الكهربائى- عبر سوريا. وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية إن قانون قيصر «أداة مهمة»، لكن يجب أن تكون العقوبات متوازنة مع المخاوف الإنسانية.

المبادرة الأكثر ظهورًا، والتى تستند إلى دول عربية، هى تلك التى ضمت مصر والأردن والعراق، والتى مضت بخطوات ثابتة خلال العامين الماضيين، حيث يبرز فيها أولًا تنسيق مصرى أردنى من أجل التعامل مع القضية الفلسطينية من ناحية، والسلام مع إسرائيل من ناحية أخرى؛ وتنسيق آخر يخص استرجاع العراق إلى الصف العربى مرة أخرى.

وفى كلتا الحالتين جرى تقدم كبير من حيث تثبيت وقف إطلاق النار فى غزة، وفى الانتخابات العراقية ظهر تأثير الحراك العراقى الذى يركز على الدولة الوطنية العراقية.

هذه التطورات جميعها ليست بعيدة عن المملكة العربية السعودية التى من ناحية دعمتها كلها، ومن ناحية أخرى فإن المملكة دخلت فى مفاوضات طويلة مع إيران تعددت جولاتها تضمنت بالتأكيد العلاقات الثنائية والأخرى الخاصة بالأزمة اليمنية والسلوك الإقليمى لطهران. ومن ناحية ثالثة فإن المملكة واصلت تنمية علاقات الشراكة مع مصر، والتى نمَت أواصرها منذ ترسيم الحدود البحرية بين البلدين قبل أربع سنوات، والتى كان آخر خطواتها مشروع الربط الكهربائى بين المملكة ومصر لتبادل قدرات كهربائية تصل إلى ثلاثة آلاف ميجاوات، بتكلفة إجمالية 1.8 مليار دولار، وهى خطوة تتوج ٧٠ اتفاقية و«بروتوكول» ومذكرة تعاون بين البلدين تغطى جميع قطاعات التنمية، وتحقق التعاون والتنسيق بين الأجهزة المعنية بالبلدين.

جمع هذه المبادرات مع بعضها البعض يشير إلى اتجاه جديد فى المنطقة على جبهات متعددة، كثير منها شائك، ولا تزال فيه أشكال مختلفة من العنف، وبعضها يمر بمراحل تحوُّل مرتبكة، كما هو حادث فى السودان ولبنان وتونس، ولكن التحركات الجديدة تمثل هجومًا مضادًا فى اتجاه السلام والتعاون، لا يبدو أن هناك بديلًا له، بعد أكثر من عقد نزفت فيه دماء كثيرة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس

العربية نت


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-2872.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-03-28 05:03:17