شبكة الأمة برس | العربي ذو البعد الواحد!


العربي ذو البعد الواحد!

يذكر لنا جهاد الزين في كتابه الأخير "حرائق في ثقافتنا السياسية"، وهو كتاب ثري يحتوي على استعراض لعدد كبير من الكتب، احدها بعنوان "أرامكو مذكرات رئيس شركة عملاقة" لفرانك غنغلر، رئيس "ارامكو" بين 1973 - 1978، من بين القصص انه كان يتردد على مدينة بيروت لحاجة الشركة الى تدريب منتسبيها في الجامعة الأميركية، وكان يلتقي رجال أعمال وسياسيين، وفي دعوة للقيادة الفلسطينية وقتها على غداء كان الحضور من قيادات العمل الفلسطيني، ياسر عرفات وجورج حبش وغيرهما. في النقاش ينقل المؤلف أن جورج حبش قال له: "انتم أغنى شركة نفط، لماذا لا تشترون أعضاء مجلس الشيوخ، وهم مئة شخص، وتلزموهم بأن ينظروا بإيجابية الى قضايا الشرق الأوسط"، فرد رئيس الشركة: "انتم هنا أقل من مئة شخص، لماذا لا نشتريكم أرخص!!". كلام يبدو مازحاً، يشير ربما الى انه اذا كانت القيادة الفلسطينية ليست للبيع، فأولى أن يكون أعضاء مجلس الشيوخ! ولكنه الفرق بين تفكير وتفكير، فكثيرون يفسرون الأمور بحسب تجربتهم وبيئتهم من دون معرفة الفروق الثقافية والسياسية مع الآخر.

لعل تلك القصة تبيّن اختلاف مناهج الاقتراب من المشكلات العالمية في بيئتنا السياسية، فكثير من قضايانا نعتقد أن العالم يجب أن ينظر إليها من زاوية نظرتنا فقط. يحتفل بعضنا برأي غربي يقول إن الهجوم على منهاتن كان بتدبير المخابرات الأميركية، أو يسعد بترويج كتب مثل كتاب "موت الغر" و لا يمد بصره الى حقيقة أن في الغرب أناساً هامشيين ينشرون مثل تلك الأكاذيب البعيدة من الواقع ولأنها تجد هوى يروج لها.

الموضوع بكاملة يحتاج الى وقفة، فكل ما نصادفه أو معظمه من أحداث سياسية كبرى نجد أن المتابع العربي من (أهل النخبة) في زماننا ينظر الى الأحداث في الغالب من وجهة نظره وما يسير على هواه من دون مشترك مع وجهات النظر الأخرى. آخر الأحداث هي أحداث أفغانستان وموقف الولايات المتحدة حيث تجد أن كثيرين يعتقدون بشكل جازم أن (الولايات المتحدة قد خسرت و هي في تراجع ويتوجب مطاردتها ومصالحها في كل مكان، وليس هناك من الوقت إلا قاب قوسين أو أدني للسقوط و التسليم)!

ربما الحقيقة في مكان آخر (حيث أن ما حدث في أفغانستان له خصوصية لا يمكن أن تتشابه في أي مكان آخر، وأن الولايات المتحدة وإن خرجت من ذلك المستنقع، إلا أنها سوف تظل فاعلة ومؤثرة على الصعد العالمية)، إلا أن أصحاب وجهة النظر الأولى ليسوا على استعداد للسمع، ويجرفوا معهم قطاعاً واسعاً. وفي ملفات أخرى مثل ملف (الإسلام السياسي) هل انهزم كلياً او هو ما زال موجوداً ومؤثراً)؟ ترى هنا كثيرون يرون أنه انتهى، وهذا ربما تفكير تدفعه الرغبة وليس تحليلاً عقلانياً، وتقريباً كل الملفات المطروحة للنقاش عليها خلاف يقع في مساحة (الأسود والأبيض). هل هذا الاستقطاب (ظاهرة في الثقافة العربية) أم تشارك ثقافات أخرى في مثل هذا الاستقطاب الحاد؟. عند قراءة نمط التفكير في كثير من المجتمعات ذات السقف العالي من حرية التفكير المضمونة بمؤسسات وبسلسلة من القوانين النافذة، فإن وجد الاستقطاب فهو ليس بهذه الحدة لأن القانون والثقافة العامة يمنعان الذهاب الى التطرف في الغالب. حتى الآن في ثقافتنا العربية المعاصرة لم نصل الى قراءة رشيدة للفكر المستنير الحاض على التفكير حتى في تاريخنا، حيث ينسب الى الإمام الشافعي قوله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، وكما هو معروف فإن الشافعي في "الفتاوى المصرية" خالف حتى بعض آرائه السابقة لأنه شهد وعايش ظروفاً جديدة، واللافت أن السابقين قد قالوا: "المجتهد لا يقطع بالصواب بل يرجح قولاً على قول".

اتساع الصدر للمخالفين هو الذي بنيت عليه آليات الديموقراطية الحديثة، التحيز للرأي الواحد بشكل قطعي ينكر على الآخرين ما يرونه ويصف المخالفين بأشنع الألفاظ. هل هي مرحلة تاريخية نمر بها؟ أم أن الصراع سوف يطول ويتم الاستقطاب الحاد في مجتمعاتنا على تلك المحاور القاتلة بين عدد من المشاريع والتي هي في أغلبها تقرأ التطور الاجتماعي قراءة تراثية بحته، والزمن بالنسبة إليها واقف في مكانه لا يتحرك؟ (الرأي والرأي الآخر) ونسبية الأحكام وتحولها مع الزمن، معطى إنساني وتاريخي يتوجب أن يطرح بين المشتغلين بالفكر والممارسة السياسية العربية، إذ له علاقة ليس بحاضرهم ولكن حتى بوجودهم. بدلاً من كتم الافواه وشيطنة المخالف وحتى في كثير من الأحيان تصفيته. البحث عن تعدد الأبعاد وفهم العصر ضرورة حياتية للمجتمعات العربية، إلا أن الجهد الذي يتوجب أن يبذل هو في بناء مؤسسات ضامنة، وفي إشاعة التفكير النقدي في المدرسة والجامعة والجامع والإعلام وأن يطرح الموضوع بشجاعة أدبية لا لبس فيها ولا تورية أو مجاملة أو خوف من سلطة زمنية أو تراثية، فالبعد الواحد هو ما يفقدنا الفرص ويفوت المبادرات وينشئ الحكم المتسلط.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-2783.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-04-20 09:04:54