شبكة الأمة برس | محنة المثقف العربي أمام مرايا الذات؟


محنة المثقف العربي أمام مرايا الذات؟

منذ الجملة البدئية L’incipit يبدأ مسار الرواية من خلال حقيقة مستقرة: «الآن صرتُ أراها عدة مرات في اليوم (ص:5)» يأتي السؤال التلقائي ماذا فعلت الجارة لتدفع بالسارد نحو رؤيتها العديد من المرات في اليوم؟

كلما قرأت للحبيب السالمي، شعرت بالرغبة في المزيد بدءاً من تلك الجملة الافتتاحية التي ينشأ على أنقاضها معمار الرواية كله. الكاتب يفرض علينا سلطة الحكي بلغة بسيطة، لكنها مليئة بالأسئلة والغوايات التي تشترط نباهة تتخطى الظاهر. فكلما انتهيت من القراءة، شعرت بشيء أعرفه، وبشيء آخر يظل معلقاً في الحلق، وكأن الرواية الواحدة لا تقول كل شيء قصدياً، وعلى القارئ انتظار النص الآتي لكي يفتح في هوامشه من جديد.

أسئلة كمال عاشور غير المعلنة ومأساته، هي نفسها أسئلة عمار في «حفر دافئة» وتوفيق في «متاهة الرمل» وياسين في «روائــح ماري كلير» وسي البشير في «بكارة».

قد تبدو تيمة الحب مستهلكة ظاهرياً، لكن الأمر ليس بهذه البساطة. لقد كسر الحبيب السالمي اليقين الذكوري العربي الذي يفترض أنه بمجرد أن يرغب الرجل/الذكر، تنصاع له الأنثى/المرأة؟ مع أن الروائي أعطانا كل المقدمات حول إمكانية سقوط الخادمة (زهرة) بين يدي السارد (كمال عاشور) مثل الفاكهة الناضجة، بالخصوص أن هذه الأخيرة مجرد عاملة تنظيفات، مغتربة تونسية، أي في حالة مجتمع نُضِّد على أساس جهة المصدر.

كعادته، اختار الحبيب السالمي لغة باردة، مجردة من كل الزوائد ومن كل غنائية ضافية تنفخ النص أكثر مما تخدمه. وهو خيار استراتيجي في كتابة الروائي. التيمة أيضاً بسيطة، في ظاهرها على الأقل: الاشتياق والحب والرغبة.

لا بطولة ولا فتوحات كتلك التي نراها في الكثير من النصوص العربية. يوميات خادمة بسيطة، تقع في مرمى كمال، تنتهي القصة بشتيمة زهرة لكمال وطرده من البيت لأنه تعدى عتبة الحنان اتجاه الإهانة، فتعطيه درساً حقيقاً في احترام الغير وحريته.

مثقف العالم الثالث النفعي رهين المسبقات التي تتجاوز قضية الحب كانت أكثر وضوحاً ودقة منه هو الجامعي والمثقف الألمعي.

تبدو الرواية غير معقدة تقنياً وسهلة التناول والفهم، لكنها مع مرور الوقت القرائي تظهر أم القضايا الجوهرية: هوية المثقف العربي. يذكرنا ذلك بالكتابة المقتصدة عند ميلان كونديرا في رواياته التي كتبها باللغة الفرنسية، الهوية تحديداً.

من أسئلة غريبة يطرحها كل زوج على نفسه: جون مارك وشونتال، تدخلنا الرواية في جحيم لم يهيئنا الكاتب له: استبطان داخل كل فرد على حدة.

من هنا تصبح الرواية لحظة، هناك تدمير ليقين كمال ونشوء شيء مخالف في مسألة الهوية. حياة زهرة الخادمة عادية ورتيبة يعرفها جميع من في البناية. كل واحد في دائرته، حيث تغيب الأسماء ويحضر اسم البلد: مدام رودريكس تصبح البرتغالية، وعونزاليس يصبح الإسباني، وزهرة التونسية، إلى غير ذلك، بينما اختفى كمال عاشور التونسي تحت مظلة بريجيت، زوجته، لينظر على أساس أنه فرنسي.

الدائرة الضيقة التي تتحدد هوية الآخرين من خلالها واحدة من كبريات المعوقات في المجتمع الفرنسي، التي تضع كل مواطن في مرجعه، وهو ما ينمي العنصرية، لأن خطأ الفرد ينعكس بقوة على المجموعة التي ينتمي إليها.

لم يختر الكاتب نموذجي الإسباني والبرتغالي اعتباطاً، فهما من الهجرات القديمة بسبب الفقر الذي شمل البلدين في وقت من الأوقات. وضعهما كان شبيهًا بوضعية العربي اليوم.

تسعد زهرة عندما تكتشف أن كمال ليس فرنسياً، ولكنه تونسي، ابن بلدها، ويعطيها ذلك نوعاً من الراحة الداخلية، فتتحدث معه باللهجة التونسية، وهو ما يجعلها تختزل المسافات والعزلة والحنين والغربة.

لم تكن اللغة مجرد وسيلة تعبيرية، فهي أداة للسفر نحو الأرض الأم، واختراق الوحدة التي تعيشها زهرة.

 يُحدث ذلك قرابة روحية بينهما، والكثير من الأمان الذي يبحثان عنه. كمال أيضاً كان في حاجة إلى ذلك، فهو الشخصية المرموقة والمحترمة والأستاذ الجامعي، لكنه يعيش حياة باردة مع بريجيت. يلامس الحبيب السالمي مرة أخرى موضوعة الزيجة الهجينة التي تتقاطع فيها ثقافتان وحضارتان، لكن من موقع الهيمنة.

حياة مستقيمة يحكمها الصمت، مبنية على براغماتية حادة، تكاد العواطف فيها لا تظهر. يلتفت كمال نحو زهرة فيحبها عن بعد.

الرواية كلها هي حالة اقتراب كمال من زهرة، مثل الفراشة من النار التي ستحرقه. تحرق يقينه وتنشئ بدله الأسئلة الأكثر تعقيداً. توقظ فيه الكثير من الرغبات الدفينة، وهو الرجل الستيني.

بينما تسير زهرة حياتها بشكل يومي وطبيعي، تعيش على حلم واحد: العودة إلى أرض الوطن بعد إتمام بناء بيتها هناك. كمال يحبها، ويريد لهذا الحب أن يظل أفلاطونياً «فيما يخصني، كان هناك، بالإضافة إلى هذه اللعبة، حب لزهرة ما زلت أصرّ على أن يظل سرياً، وخاصة عذرياً (135)». يقترب منها أكثر يوم تكتشف زهرة مدام ألبير ساقطة في حمام بيتها، شبه ميتة. طلبته لمساعدتها في طلب النجدة.

يومها كانت قريبة منه، فشم عرقها وعطرها. حتى عندما سافرت زوجته بريجيت، لم يذهب إلى غرفة ابنه سامي كما تعود أن يفعل، ولكنه ظل يتأمل السقف ويستعيد بشهوة غامرة كل حركات زهرة التي أصبح حضورها فيه قوياً.

يحاول أن يصل إليها كلما أتيحت له الفرصة، متخطياً العتبات التي سبق أن وضعها لنفسه، وتصل به حالة التهيج، في آخر لقاء بينهما، فيستيقظ الحيوان الذي فيه ويغيب المثقف الواعي، لكنها توقفه عند حده، بصرامة.

تبدو الرواية في الوهلة الأولى سهلة المنال من حيث الدلالات الكبيرة. قالت الرواية الحياة اليومية الباريسية في عمارة، ومعاناة الناس، وصمتهم وعلاقاتهم فيما بينهم. لكنها سرعان ما تتخطى هذه العتبة، فتصفعنا بقضية أكبر، تتعلق بقضية الهوية المتحركة في الزمان والمكان، والخاضعة لمختلف التغيرات، وازدواجية المثقف التونسي والعربي.

 كمال زبدة المجتمع، أستاذ الرياضيات في الجامعة الفرنسية، المتحضر، المتزوج بفرنسية (بريجيت) العاملة في البنك، التي تعلم منها كيف يكون فرنسياً في كل شيء لدرجة أن اختفى جانبه التونسي، ينظر إلى عاملة التنظيفات نظرة دونية قبل أن يكتشف عمقها.

زهرة مطية الرواية التي تضع المثقف في الزاوية الضيقة، فقد اكتشف كمال عاشور نفسه وهزيمته من خلالها، عرّت الازدواجية التي كان فيها، أعطته درساً حقيقياً في معنى الإيمان بحرية الآخر.

صحيح لم تكن سعيدة مع زوجها منصور لحظة اكتشافها حنان كمال، فسمحت له بأن يمسد على شعرها وأن تضع رأسها على صدره في لحظة طفولية، ظنها هو عتبة للجنس. يوم توفيت مدام ألبير هي من دعته لحضور جنازتها وتقاسم آلامها، فأعطته درساً في التسامح الدني مع الآخر المختلف، مؤمنة بالاختلاف دون أن تدعيه.

وعندما دخل إلى بيتها، اكتشف اللوحة الكبيرة التي تحتل جزءاً مهماً من الحائط، فيرتد في اللحظة نفسها إلى بيته البارد الذي لا توجد فيه أية لوحة، فهي منسجمة في تعدديتها بين اللوحة الجسدية واللوحة الخطية التي تعبر عن روحيتها الحضارية.

وكان كمال قد اكتشف، قبل ذلك، كيف تعلمت زهرة اللغة الفرنسية وأتقنتها إلى حد كبير، وطلبت منه أن يعلمها اللغة العربية التي حرمت منها بسبب زوج أختها المتزمت دينياً الذي منعها من التعليم. استطاعت بنضالها الصامت أن تشتري بيتاً مثله، وتربي ابنها المعوق حركياً.

هي المحددات، للأسف، التي تحكم علاقة المثقف العربي بشعبه: الشعب الأمّي، المثقف العارف؟ رواية «الاشتياق إلى الجارة» نص مخاتل يمر بسيطاً في طبقته العليا، لكن عند الحفر في طبقاته التحتية العميقة، نكتشف الأمر الخطير الذي تخفيه الرواية، وسؤالها الكبير: لماذا أخفق المثقف العربي في خياراته الإنسانية؟ والثقافية؟ والحضارية؟.

 

  • روائي جزائري

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن الأمة برس


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-2213.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-04-24 02:04:27