شبكة الأمة برس | «التدويل» بين المخاطر والفُرَص


«التدويل» بين المخاطر والفُرَص

لا يخشى العرب، دولاً وأفراداً ومفكرين وجمهوراً، مصطلحاً وواقعاً كما يخشَون: التدويل. وهو يعني بالنسبة لهم جعل أمنهم الداخلي والخارجي في مهب تجاذبات التدخلات الدولية والإقليمية. ويرجع ذلك لأمرين: واقعة قيام الدولة الصهيونية على أرض فلسطين بقرارٍ أُممي عام 1948.

والأمر الآخر الاعتقاد أننا ضعفاء في عوالم الدول الكبرى، وأن تطلُّبَ قرارٍ دولي أو الاضطرار للخضوع له يعني استمرار المشكلة وزيادة الاضطراب، أو الارتهان له؛ فضلاً عن تهالُك إدارات الدول، والخسائر الهائلة في الإنسان والعمران.

إن هذا التوجس، وتلك الواقعة في فلسطين، غَذّا في السنوات العشر الأخيرة الأمرين معاً. إذ صَدرت عشرات القرارات الدولية بشأن مشكلاتنا نحن العرب، بما لم يعرفه العالم في أي منطقة منه على مدى عقود. ورغم نحو العشرين قراراً يختلط فيها السياسي بالإنساني؛ فإن أياً من المشكلات لم تجد حلاً. لقد كان المؤرخ البريطاني الراحل أريك هوبسباوم يقول: إن ثلثي القرارات المتخذة في مجلس الأمن لا تجد طريقها للتنفيذ.

إن الذي ينبغي النظر فيه أولاً بالنسبة للعقد الأخير؛ أن الفرقاء المتنازعين بالدواخل العربية حاولوا حلّ المشكلات فيما بينهم بالحسنى أو بالقوة وفشلوا في ذلك، فتدخلت دول الجامعة العربية وشكّلت لجاناً وأرسلت مبعوثين، وعندما لم يفد ذلك أيضاً، لجأ العرب أو الدولة المعنية أول دول كبرى لمناداة مجلس الأمن. ولكي يكونَ المقصود واضحاً فإن الدول الكبرى نفسها وفي كثيرٍ من الأحيان لا تريد الوصول إلى قرار دولي لتأثير ذلك على مصالحها أو لأنها غير معنية.

لكنْ إذا جرى التوصل لقرار فإنه يكون متسماً بقدرٍ كبيرٍ من التوازُن الذي قد ينصب لصالح الاستقرار في البلد المعني. والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها القرار رقم 1701 بشأن الحرب بين إسرائيل و«حزب الله» على الأرض اللبنانية بإدخال الجيش للجنوب مع القوات الدولية عام 2006، إذ قوّى الدولة اللبنانية من جهة، وأتاح لجنوب لبنان استقراراً ما عرفه منذ أواخر الستينات من القرن الماضي.

وما يقال عن لبنان يقال عن سوريا والقرار رقم 2254، إذ هو يتيح للشعب السوري فسحة مشاركة وحرية من خلال دستورٍ جديد وترتيبات أُخرى للسلطة. وبالطبع فإن الجهات المتدخلة في سوريا ما ساعدت في إنفاذ القرار، لكن روسيا وهي متدخل رئيسي وجدت نفسها أخيراً بحاجة إلى نوعٍ من الاستقرار في سوريا، فعادت علناً على الأقل للتعاون في إنفاذ القرار.. في أحيانٍ كثيرة لا تنجح القرارات في تهدئة الأوضاع، لكن الأطراف الكبرى على الأقل تجد نفسها في حاجة إليها ولو بعد حين.

إن أهمية القرارات الدولية أنها (وبسبب الحاجة للتصويت بمجلس الأمن) لا تفترض وجود طرفٍ منتصر وآخر مهزوم، بل تشترع للحل السياسي الذي يحضر فيه الجميع. وبالطبع ففي حالتين مثل سوريا واليمن سيجد الأسد والحوثيون أنه لا مصلحة لهم في ذلك، لأنهم يريدون البلاد لهم وحدهم، وهذا بعد الثورة السورية، وذاك بعد الثورة اليمنية.

إنه بقدر ما يمكن الحكم عليه فإن المصالح الاستراتيجية الأميركية والروسية والصينية والأوروبية ليست مهددة إذا حصل حل سياسي بمقتضى قرارٍ دولي في اليمن أو سوريا أو العراق أو ليبيا أو لبنان!

فمن أين يأتي التعقيد المانع للحلول إذن في حال التدويل؟ يأتي من الأطراف الأصغر أو الأطراف الإقليمية المتدخلة في بلدان الاضطراب. وفي الحالة الحاضرة للدول الأربع أو الخمس التي ذكرناها؛ فإن الصعوبات الرئيسية الحائلة دون «الحل السياسي» تأتي من جانب إيران وتركيا.

وبالطبع فإن لكلٍ منهما تحالفات أو اتفاقيات أو ارتباطات مصالح مع الدول الكبرى الصانعة للقرارات في مجلس الأمن، والساعية عندما تنضج الظروف لإنفاذها.

ولننظر على سبيل المثال إلى روسيا التي عملت ثلاثياً مع إيران وتركيا في الأزمة السورية. لكننا رأينا روسيا أخيراً تصطنع ثالوثاً آخر مع تركيا وقطر، وهذا فضلاً عن الرابوع غير المعلن مع إسرائيل. وما أعنيه أن للدول الكبرى مصالح مستقرة واستراتيجية، لكنْ ليست لديها تحالفات مستمرة وأبدية.

كان إردوغان خائفاً على الأمن التركي من الظهور الكردي بالداخل وعلى الحدود في سوريا والعراق. ولذلك تدخل بقوة في سوريا، وتكاثرت غارات طيرانه في العراق. لكن مشروعه (الاستراتيجي) نما إلى حدود الاصطدام مع مصر باعتباره زعيماً لمشروع الإسلام السياسي، ومع الأوروبيين لأنه يريد حصة وافية من النفط والغاز بشرق المتوسط، واعتبر تركيا دولة عظمى ترسل مرتزقة سوريين مساكين إلى ليبيا وأذربيجان، وتستطيع وهي عضو في حلف الأطلسي أن تشتري سلاحاً متطوراً من روسيا الاتحادية.

كل هذه المغامرات وجهت بانسدادات بالداخل ومع الخارج توشك أن تدمر الاقتصاد التركي الذي كان مزدهراً. ولذلك يستدير إردوغان ويراجع كما يبدو، وليس لأنه تجاوز حدود القدرة فقط؛ بل ولأنه تجاوز حدود المصلحة الحقيقية.

أما القوة الإقليمية الأُخرى وأعني بها إيران، فلا يبدو أن سياساتها تجاه جهات تدخلها العربية قد تغيرت أو قابلة للتغيير في الأمد المنظور، رغم الضغوط والقرارات الدولية. إذ كل بلدٍ تدخلت فيه وتسببت في اضطرابه وتخريبه، تعتبره مجالاً حيوياً وحقاً وواجباً، ومرة باسم التشيع، ومرة باسم الاندفاع نحو البحر المتوسط، أو البحر الأحمر أو المحيط. ومرة ثالثة باسم تحرير فلسطين، ومرة رابعة من أجل إزعاج الولايات المتحدة.

بعد عشر سنواتٍ وأكثر من «التدويل» الاضطراري أو الأقلمة المهلكة، تميل الدول الكبرى ويميل جمهور الدول المعنية (مثل العراق واليمن ولبنان)، إلى استعادة الاستقرار. وتصمد في هذا الاتجاه وتتقدم بالمبادرات السلمية كل من مصر (في ليبيا) والمملكة العربية السعودية (في اليمن). وهكذا يتبلور نوعٌ آخر من «التدويل» الذي يعني الانفتاح على العرب وعلى المجتمع الدولي.

ونحن اللبنانيين - والحق يقال - ما وجدْنا في «التدويل» إلا الاستقرار والحفاظ على الوحدة، واستعادة الوطن والدولة. فالذهاب إلى العرب أتى لنا باتفاق الطائف، والاستقرار وإعادة الإعمار، والتدويل الدولي حمانا من إسرائيل، وأخرجنا بالقرار الدولي رقم 1559 من السيطرة السورية، ونحن نأمل أن نخرج به (وقد بادر البطريرك الراعي إلى المطالبة به) من الانهيار الشامل الذي تسبب فيه التنظيم الإيراني المسلح الذي علّق الدستور، وعزلنا عن العرب والعالم، وحوّل شبابنا إلى مهاجرين أو زعران يسدون الطرقات!

لا خوف من التدويل اليوم، بل الخوف من البقاء معزولين وجائعين، وتحت سيطرة التنظيمات المسلحة التي تعيث فساداً فيما تبقى من عمراننا!

 

  • كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-2020.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-04-20 09:04:59