شبكة الأمة برس | المأزق الكبير.. الجزائر في مواجهة خيار الانتخابات؟


المأزق الكبير.. الجزائر في مواجهة خيار الانتخابات؟

 

تعيش الجزائر مأزقاً خطيراً لم تعشه من قبل، إما أن تقفز عالياً قفزة ديمقراطية غير مسبوقة، أو تقفز نحو الفراغ المميت. لا يوجد أي حل وسط كان متوفراً بعد إزاحة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. لم يعد هذا الحل مثار اهتمام اليوم، لا النظام المتجمد حتى الموت في موقفه يريده، ولا الحراك الذي رفع سوية المطالب ليمس كل من كان فاعلاً في النظام السابق، مع العلم أن قيادة الأركان هي التي أجبرت الرئيس على الاستقالة، ووضعت جزءاً كبيراً من العصابة المتغطرسة وراء القضبان دون أن تذهب حتى النهاية في حربها ضد العصابة. السؤال الكبير اليوم، وماذا بعد؟ بعد قرابة العشرة أشهر من المسيرات السلمية وملايين الأصوات التي تنادي بضرورة تغيير النظام، في شوارع الوطن، والتي بلغت أعدادها الملايين، النظام لا يسمع إلا ليقينه الانتخابي.

بالمقابل، لم يفرز الحراك قوى (وهي موجودة) تتوحد حولها مختلف الفعاليات الحراكية.

المأزق اليوم هو أنه لا يوجد أي قاسم مشترك لمحاورة النظام، للتفكير في نموذج الحكم القادم، مع الحفاظ على الدولة وعدم مس كيان مؤسساتها، لأن انهيار هذه الأخيرة يعني ببساطة الدخول في دوامة حرب أهلية لن تنجب إلا الرماد. وتحتاج المؤسسة العسكرية القوية اليوم أن تظل متجانسة وموحدة، ولا تخترقها خلافات المجتمع، من دينية وعرقية وإثنية وثقافية ولغوية. فقد وضع النظام المجتمع كله أمام مأزق الأمر الواقع بفرض الانتخابات قسرياً بخمسة وجوه متشابهة، ليست ثمرة النظام فقط، ولكنها وليدة حالة احتضاره، وهي بالتالي محملة بسمات اليأس والخوف من المجتمع. المطلوب من هذه الوجوه الخمسة في النهاية، أن تطيل في عمر النظام ورسكلته بكل السبل، من دون الالتفات إلى حراك أصبح قوة اجتماعية حقيقية. بل هناك نزعة احتقارية له، واتهامه بكل النعوت السلبية لدرجة أن وزير داخلية حكومة العصابة اتهم الحراكيين بالعمالة والمثلية وكل صفات الدونية.

المشكل الذي لا تدركه مخلوقات النظام التي شوهها الحكم كلياً أن التاريخ يقول إن كل القوى الاجتماعية، عندما لا تجد من يحاورها، تميل نحو الراديكالية والتطرف بكل أنواعه، بما في ذلك حمل السلاح، للأسف. وليست نغمة العصيان المدني التي تثار هنا وهناك، بكل مخاطرها ومآسيها، إلا شكلاً أولياً لهذا التطرف الذي يمكن أن يسرق من الحراك سلميته.

وقد يلعب النظام نفسه ورقة التأجيج المحتمل. طبعاً يبدو الأمر شديد الخطورة. وإذا صدقنا الخبر الذي بثته وسائل الإعلام الرسمية، أنه تم إلقاء القبض على شخص من تنظيم الماك MAK (الحركة من أجل استقلال القبائل) السري، مسلحاً. ومثلما تحكمت العصابة في سوق المخدرات والكوكايين والمهلوسات التي ما تزال سوقها رائجة في المؤسسات التعلمية والأحياء الشعبية الفقيرة والغنية أيضاً، ما تزال تتحكم اليوم في سوق تهريب الأسلحة التي لا نعرف عنها شيئاً سوى أن القوى الأمنية والعسكرية، في كل مرة تصدر بياناً يؤكد نشاط شبكات الأسلحة في منطقة الجنوب المفتوح على ليبيا ومالي والنيجر، وكلها ممرات لعبور الأسلحة الأكثر فتكاً. نفترض طبعاً أن تواطؤاً كبيراً حصل ويحصل مع عصابات تهريب الأسلحة على مستوى عال. وهذا لا علاقة له بنظرية المؤامرة، فقد مرت عبرها أغلبية الدول العربية التي استرخص فيها الإنسان حتى أصبح لا يساوي جناحي بعوضة.

التدخل الأجنبي ليس في قرارات بروكسل وحدها، فهذه مكشوفة ويمكن مقاومتها دبلوماسياً، ولكن في القوى التي تتكتل الآن وتختبر نفسها على الحدود الواسعة (عمليات داعش الأخيرة في الجنوب) ويمكن أن تجهض الحراك نفسه بإدخاله في دوامة الصراع الداخلي. هذه المغامرة الانتخابية الخطيرة التي يتحمل النظام وحده المسؤولية فيها، فهو من قررها خارج أي توافق وطني ممكن، قد ترهق المؤسسة العسكرية نفسها، وتجعلها أمام صعوبات جمة غير محسوبة أبداً. ما تزال حسابات النظام قديمة ومتآكلة، ينسى بأنه ليس أمام شعب فترة ما بعد الاستقلال الذي تربى على الصمت والصبر وتحمل كل شيء بما في ذلك الانقلابات العسكرية، مقابل وحدة البلاد والعباد، الفكرة التي استباح بها النظام حقوق المواطنة وأشاع فساداً غير مسبوق ولم يعد الشهيد والثورة بالنسبة لورثاء الدم إلا مطية لمزيد من النهب المنظم والمهيكل.

لكنه أمام شعب آخر، تربى في الظلم وعنف السلطة الذي تولدت عنه أشكال مختلفة للعنف، بما فيها الإرهاب الذي ترسّم من خلال حسابات خاطئة من النظام نفسه، ويتحمل قسطه الأكبر من المسؤولية. هذا الشعب الجديد الذي كان يفتح عينيه كل صباح على الرؤوس المعلقة في الشوارع، لم يعد شيء يخيفه. يكفي أن نرى الشباب الذين يرتادون البحار بأمل يكاد لا يذكر في النجاة. لكنه أيضاً شعب تربى في وسائل الاتصال الحديثة التي يرى من خلالها العالم الآخر الذي ينعم بحياة أجمل وأبهى ويملك قدرة السيطرة على هذه الوسائل. لا يمكن استغباؤه بسهولة كما حدث مع الأجيال السابقة.

هذا الشعب يشكل اليوم قوة الحراك بكل عنفوانها وتناقضاتها. كيف سيكون هذا الشعب غداً عندما يفرض عليه رئيس هو أرنب من أرانب النظام المتآكل؟ ما هي الحلول المتاحة اليوم لتفادي الانهيار الكلي؟ ثلاثة حلول ممكنة: أولها، انتخاب رئيس بلا قاعدة، مشلول كلياً، عليه أن يجد حلاً للمعضلات الاقتصادية القادمة، وإلا سيتضاعف الحراك إلى أن يشل البلاد كلياً لتفتح بوابات جهنم؟ الحل الثاني، شبيه بالحل السوداني، في حالات التأزم القصوى، يتنازل النظام عن تعنته المميت، ويتجه نحو المجتمع المدني والحراك من أجل مفاوضات حقيقية وإيجاد صيغ مدنية بديلة تشترك فيها المؤسسة العسكرية من أجل فترة انتقالية تحافظ على وحدة البلاد والسلم المدني. الحالة الثالثة قريبة من الحالة العراقية، أن يستمر النظام في تعنته فيواجه الرئيس الجديد تمرداً شعبياً خطيراً قد ينتهي إلى الدم وتضمحل السلمية نهائياً. ثلاثة حلول متاحة اليوم فقط لأن الحل على الطريقة التونسية ابتعد كلياً من المشهد، وكان يمكن أن يكون المرور نحو الديمقراطية بسلاسة، لكن التعنت وعدم التنازل جعل هذا الحل مستحيلاً اليوم، على الرغم من دعوات المجتمع المدني العديدة التي لم يسمعوا لها.

مع أن المصلحة الوطنية تحتم على النظام الاستماع لصوت الحق والحكمة، لأن الجزائر ليست مزرعة أورويل يعمل فيها القوي والمتواطئ ما يشاء.

 


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-200.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-04-19 10:04:30