شبكة الأمة برس | الطريق إلى الحرية


الطريق إلى الحرية

لا شك أن طريق الحرية شاق وطويل، مسارات وخطوات مهمة في العبور نحو تجارب ديمقراطية ، في الطريق منعرجات ومنحدرات وخطوط متصلة ومنفصلة، التواء وإشارات، طرق معبدة وأخرى مهترئة، قوى راغبة وأخرى رافضة للتغيير، لكن للتاريخ منطق خاص، غايته تحقيق الحرية وتحرير الناس من الأوهام والاستبداد، والحياة مسلسل لا ينتهي من التوافق والصراع، السياسة وفن تدبير الحكم معضلة عالمية، صراع السيد والعبد بلغة هيجل، جدلية الثابت والمتحول، مهمة لا تخلو من حسابات إيديولوجية، تكتلات ترمي للبقاء المستمر في السلطة، ورغبة الأطراف الأخرى في تغيير قواعد اللعبة، إرادة القوة المهيمنة في الفعل، والسلطة المطلقة تدبير أناني، وهيمنة لا عقلانية في عالم متعدد، والفكرة التي تقتضي إنزالها تلتقطها ذوات، وتتحول لأهداف نبيلة، طرائق ونماذج في العالم ذات شرعية، ومن التاريخ هناك شخصيات صنعت مجدا وساهمت في التغيير الذي يعتبر من سنن الكون، نحو انعتاق الإنسان من القيود والتحرر من نير الاستبداد والاستعباد ، مسار الحرية في دروب معتمة وخطوات دقيقة ومحسوبة النتائج، رفع القيود وتحرير الفرد من التخويف والترهيب، واكتساب قناعات جديدة تترسخ في واقعها بدائل عملية، من تطور الفرد والجماعة، وإحلال القانون، وعمل المؤسسات، والضرب من حديد للقوى الرافضة للتجديد والبناء، القوى المنتفعة . تاريخ العالم كما قال هيجل ليس سوى الوعي بالحرية، وشروطها موجودة كفكرة يلتف عليها الإنسان في صراع وجودي بين الحرية والاستبداد، حرية الروح الخارقة ووعي الإنسان بما هو كائن حر، والتفكير الفلسفي عندما يعتبر الحرية جوهر الإنسان وأساس قيام الدولة، لا يعني الحرية بدون قيود أو نفعل ما نريد ونرغب بدون محاسبة، الحرية كما نفهمها فلسفيا مسؤولية واختيار، تلك القيود التي نعتبرها قانونية أو دستورية داخل نظام عقلاني مهيمن يمنحك السيادة والحقوق، ويلقي عليك واجبات ، ويعتبرك مواطنا.                                                                                                               

 يتمرس العقل على التفكير بحرية، الإنسان كما قال جون جاك روسو خلق حرا فلماذا يستعبد ويقيد بالسلاسل؟ الإرادة العامة خير ممثل لهذا الإنسان في صيانة كرامته وحقوقه، تحفيز الإنسان في التعبير عن الرأي بجرأة وبدون وصايا ، خروج الفكرة المجردة من الذات نحو العالم الواقعي، أفكار معقولة تعيد الاعتبار للكائن الإنساني في نيل الحرية، ورفض الأوضاع القائمة، والسير نحو أفق تحقيق إنسانية الإنسان، مسؤولية الإنسان أمام ذاته وأمام التاريخ في التغيير، استلهام النماذج المعقولة في السياسة، وتنظيم الحياة الاجتماعية وفق المأمول من النتائج الحسنة، الصراع الوجودي على الفكرة مرده للشرخ الذي يعاني منه العالم بين القوى المالكة لوسائل الإنتاج والقوى التي تعاني الاستلاب والاغتراب، قراءة الواقع العالمي من منطلق الفلسفة المثالية والمادية، والنظريات المهيمنة في المجال السياسي والاقتصادي، يختار الإنسان الأمل ويصارع ضد الأنظمة الشمولية، ويسعى بجهده وإرادته نحو تثبيت الممكن في عالم السياسة، غاية الإنسان الكرامة وتوزيع الخيرات بالمناصفة أو التقليل من الهوة العميقة بين الأغنياء والفقراء، وتحسين ظروف العيش بالتنازل والانصياع لصوت الضمير والعقل، الحياة السياسية تطوير باستمرار، ولا تعني بالضرورة اجترار للماضي والثبات على فكرة معينة، بل تتلون الدولة والسياسة بألوان العصر وأزماته، فالطريق إلى الحرية مسار صعب للغاية، سنوات النضال والصراع تكلل في الأخير بانتصار الأمم والشعوب، والتاريخ لا يمكن أن يظل متصلا بدون هزات سياسية واجتماعية، ثورات الغرب صنعت الحداثة الغربية، وساهمت في ميلاد الدولة الحديثة، والثورات العلمية بدورها زحزحت اليقين والحقيقة الثابتة، وشكلت نواة أفكار جديدة، مسيرات عالمية في التعبئة ومناهضة الاستعمار، اللاعنف كسلاح والكفاح المسلح  خيار في كتابة التاريخ، أبطال وزعماء ساهمو ا في تحريك عجلة التاريخ.                                                       

 مسألة الحرية قضية وجودية تتعلق بالفرد والمجتمع، ونفهم منها القدرة على الفعل والتحرر من القيود، وعلى تجاوز الوضع الخاص بالإنسان، والظرفية الصعبة التي تعيشها الأمم والشعوب، يعني مقاومة الفكر الأحادي وإنهاء الاحتكار للسلطة من قبضة الفرد الواحد ، الحرية تتحقق في عالم الفرد، وفي ارتباط متين بالمسؤولية والاختيار، والقناعات التي تتولد من خلال التراكم في التجارب الإنسانية ، كما تعمل المؤسسات العامة على صيانة الحرية من خلال تعديل الدساتير والقوانين، وما يتماشى والعصر، الحرية لا تفهم دائما في بعدها الفكري الميتافيزيقي وعلاقتها بالإرادة والعقل والضمير الأخلاقي، بل الحرية كذلك مؤسسة في إطار القانون، وفي عمل المؤسسات، مؤشرات الحرية غير منفصلة عن مجموعة من المفاهيم كالديمقراطية والقانون والواجب والتنمية البشرية، والمشاركة السياسية والتداول السلمي للسلطة ، المشقة ذاتها هي السبيل في نيل الحرية، والمقاومة لكل الإكراهات الخارجية، وللموانع المتعددة، عندما يتحقق الوعي بشروط الحرية، وتستجيب الحرية لشرط الوجود، هنا تستطيع الذات أن ترسي معالم الممكن في الحياة السياسية والاجتماعية، هناك شعوب بلغت درجة كبيرة من الوعي والمسؤولية، وهناك شعوب أخرى تمتلك الآن رصيدا من المعرفة بالتاريخ والتقدم، وأخرى تعاني من التأخر التاريخي، أصوات عالمية تندد وتعارض شراسة العولمة ، مظاهرات ضد الهيمنة واتساع نطاقها دليل مادي عن أزمة النظام العالمي، شعار الاحتجاجات العالمية، مناهضة الرأسمالية ومقاومة الفقر والتهميش والعنصرية والكف عن الحروب، وما يتعلق بالشرخ الطبقي الذي يزداد في العالم من خلال التفاوت الصارخ بين الأغنياء والفقراء، تحولات في النيوليبرالية، من تقوية أداء الدولة وصيانة المكتسبات إلى تقوية الرأسمال وتمركزه بيد القوى الاقتصادية المهيمنة، ناهيك عن التحالف بين السياسي والاقتصادي .                                                           

الطريق إلى الحرية شاق بفعل التراكمات التي نتجت عن أخطاء الماضي البعيد والقريب، عن الأعطاب التي تولدت من خلال عدم اكتمال الفكرة في الوعي الفردي للعالم الثالث، الأفق الذي رسمه الناس في الماضي لم يوقظ في النفوس فكرة الحرية والتنمية، بقيت الفكرة تراوح ذاتها، تطفو مرة وتخمد سنوات أو يتم تعطيلها، وبالتالي تتلاشى من الأذهان، وتصبح من الماضي، الثورة الفرنسية التي رسخت فكرة الحريات، والتفكير الفلسفي بدوره جعل من الحرية جوهر الإنسان، ومن تحرير الناس من الخوف هدفا، التفافهم على منطق معين في سبيل التحرر من الاستبداد والهيمنة، وتكريس دولة مدنية عقلانية تتسع للكل، تضحيات الأشخاص لا حدود لها، أولئك الذين رسموا لأنفسهم وللتاريخ أفكارا ومسارات انتهت نحو ميلاد مجتمعات جديدة، أولئك الذين التفوا على التاريخ، صنعوا من الفكرة حقائق غيرت مجرى التاريخ، يختفي الأبطال وينتهي الزعماء، وتبقى الفكرة حية في النفوس، نيلسون مانديلا الزعيم الإفريقي الذي قضى 28 سنة وراء القضبان، اعتبر الطريق للحرية ليس أمرا سهلا، اعتبر الصفح من شيم الأقوياء، وطي صفحة من الماضي في إطار العدالة الانتقالية التي نقلت جنوب أفريقا من نظام الميز العنصري إلى التعددية السياسية والتعايش المشترك بين البيض والسود، طريق الحرية معبد بأشواك، خطاب الحرية يقابله خطاب مضاد، أما طريق الحرية في العالم العربي فلازال في بدايته، تحرير الوعي الجمعي من ترسبات الماضي، النبش في الذات ومحاولة بنائها على منطق سديد دون تبجيل الماضي أو جلد الذات، الوعي الجمعي وتصويب الفكرة نحو الوعي بالتاريخ وشروط التقدم، العالم العربي ظل ولمدة طويلة أسير الايديولوجيا، هاجسه الأمن والسلم والاحتياط من العدو الخارجي، يلتف على العواطف والتاريخ، ويعيد ترميم الذاكرة التاريخية وما ينسجم وقناعات النخبة السياسية، مشاريع هذا العالم لم تجد طريقها نحول التطبيق لأنها فوقية، وليست نابعة من الإرادة العامة، وليدة ظرفية تاريخية معينة، ولا تعني التطابق بين الخطاب والممارسة، شعارات للتسويق والاستهلاك، ليست نتاج للتدرج والاستمرارية بالتراضي والتوافق بين الحاكم والشعب .                    

سؤال الحرية بالمعنى السياسي لم يكن قائما، كانت الحرية ضد العبودية، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد كانت بالتشخيص واضحة عند عبد الرحمان الكواكبي، والغلبة والتغلب، والتقابل بين منطق البداوة والحضارة، ومنطق النشأة والأفول للدول والأمم بالغة في تحليل ابن خلدون، العالم العربي الحديث وليد الحركات التحررية وفك الارتباط مع الاستعمار، دهشة المفكرين من الحداثة الغربية واضحة، والتفكير العقلاني من خلال الصدمة والتقرب من عوالمه، كانت نتائجها ضئيلة في التنوير واستئصال التفكير من الجمود، بناء مؤسسات وكيانات كانت بالفعل في حاجة لبناء الفرد، أو بناء منطق الحداثة على قيم نابعة من الثقافة وليست مستوردة وجاهزة، بقي العالم العربي أسير أيديولوجيات وأفكار مستهلكة، وعندما خرجت الجماهير للتعبير عن أهدافها ورغبتها في التغيير وبناء دولة مدنية، كانت الرؤى متفاوتة بين القوى المتصارعة، انتهى الربيع العربي بانتكاسة معروفة، وبقيت الفكرة تراوح ذاته في تجارب محدودة، أجهضت التجارب من القوى المضادة، والطريق التي قطعته الجماهير وهي تطالب بالكرامة والدولة المدنية، كانت مطالب مشروعة التف حولها اليمين واليسار، انتقلت الفكرة من الميدان إلى الصراع في شبكات التواصل الاجتماعي، إلى تشخيص أسباب الإخفاق وإمكانية النجاح، أن تعود الفكرة من جديد، وتنهض القوى الحية، والطاقات في بناء كيانات على قواعد مشروعة، اختيارات الناس في انتزاع السلطة من الفرد شعار الأغلبية من الناس، الحرية بناء وتطوير، مسلسل لا نهائي من التضحيات والإصلاحات، إرادة عامة وكلية من قبل الحاكم والشعب في محاربة كل أشكال الشطط في استعمال السلطة، دعوة للتقسيم العادل والمنصف للثروات، كما للتغيير زمن غير محدد في ترسيخ الفكرة .                                            

دروب الحرية ومساراتها التواء وتنصل من قبل القوى المتربصة، دروب الحرية صراع من أجل الوجود والاستحقاق، ما ترغب فيه الجماهير الواسعة، ليس خراب الأوطان، بل الانتقال النوعي نحو مجتمعات ديمقراطية وتحقيقها على أرض الواقع، مخاض الولادة العسيرة ليست مستحيلة ، تبدأ الفكرة من الوعي الذاتي وتنتقل للمؤسسات، وتتدرج كفكرة من خلال إدراكها وتمثلها لأجل تشييد أفضل الأنظمة في التدبير والتسيير، نواقصها لا تعني العجز في تحقيقها، إنها بناء مستمر، وخطة عمل لا تنتهي، تستند على الفعل والفاعل، وعلى تربية سليمة تبتدئ من الأسرة والمساواة بين الجنسين، تتغلغل في الفرد من خلال الواجب والتفاني في بناء المجتمع، الحرية تمهيد للحياة الصحيحة، الحرية اختيار، جوهر الفرد والدولة، مطلب إنساني وحقيقة لا مفر منها، سنوات طويلة من النضال والثورة على التخلف والجهل، ميلاد الكيانات من رحم المعاناة والصراعات، الاستكانة لا تحرك المياه الراكدة أو تأجيج الصراع، قضية الحرية قدر الإنسان في معترك الحياة، وفي غمار التجارب السياسية تولد الأمم وتتوهج، التنمية ملازمة للحرية، التعبير عن الذات وفك القيود شروط للحرية، الجماهير العربية التي خرجت في بلدان عدة أدركت الحاجة للتغيير، هناك ملل واجترار من التشخيص والوصف لواقعنا، منذ تاريخها الطويل وهي تكافح تحت شعارات متعددة، طابعها ديني وقومي مغلف بردود أفعال وليس كفاحا في نيل الحرية التامة التي تعني بناء الدولة على التعاقد والتراضي، وترسيخ فكرة المواطنة والتعددية السياسية وحقوق الإنسان، خروج الجماهير التواقة للحرية تمليه السياقات التاريخية وتجارب الأمم الأخرى في ميلاد نماذج عقلانية في السياسة والاقتصاد.

من يرصد مؤشرات التنمية والحريات في العالم العربي سيدرك أن هذا العالم يتذيل المراتب العالمية في التنمية الشاملة، والتجارب الحية في العالم صارت مقياسا للتحضر والتطور، لا نعثر في الغرب المعاصر على ديكتاتورية عسكرية، ولا يوجد نموذج للحكم الفردي المطلق، ولا جمهوريات وراثية، دساتير الأمم وقوانينها لا تبجل الفرد، ولا تقف مع الحاكم المطلق، القسم للدساتير، والجيش يقوم بأدواره في المراقبة والحماية والتنبيه، وليس طرفا في العملية السياسية، الفصل التام بين الديني والدنيوي، معركة المجتمع سياسية وليست ثقافية أو دينية. فالطريق نحو الحرية يبدأ من الآن ويحتاج الناس في عالمنا للزمن المناسب، والتشبث أكثر بالفكرة التي تختفي وتعود، ولن تكون العودة إلا قناعات الكل بحتمية التغيير لآليات العمل السياسي سيرا على خطى العالم .   
 

* كاتب من المغرب 
*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

                             


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-1908.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-04-20 09:04:19