شبكة الأمة برس | في مديح الهجرة


في مديح الهجرة

ينسى كثيرون أن التقويم السنوي عند المسلمين، يُؤرخ للهجرة، هجرة الرسول الكريم إلى المدينة، وأن الهجرة في التاريخ العربي أمر محمود، فأرض الله واسعة. وقبل أن ينسى البشر أن تعمير الأرض، نتج من الهجرة أساساً، وأن الحياة صراع، بين بشر يهاجرون، إلى حيث يمكنهم الحياة، وبين آخرين، تهدد الهجرة وجودهم. هكذا يبدو واضحاً، أن منافع الهجرة أكثر وأقوى من مثالبها. هذه الحقيقة الساطعة الدامغة، كثيراً ما توظفها السياسة، بحسب الداعي السياسي. فبعد الحرب الكبرى الثانية، على سبيل المثال، كانت الهجرة مرغوبة، من قبل مركز العالم القوي، أي من قبل الغرب الأورو-أميركي، كما أن الدولة المستعمَرة أو المتحرِرَة لحظتها، انساقت خلف هذه الرغبة، ما حقق للطرفين ناتجاً اقتصادياً إيجابياً. لقد أسهمت الهجرة، بالأساس، في تطور وتغيير عالم ما بعد الحرب الثانية، كما أن ناتج الهجرة، أسهم إلى حد ما، في تقليص فجوة الفروق في العالم، بين دول المستعمرات السابقة، والدول المستعمِرة.

أمر مكلف

ويُلاحظ أن الهجرة أمر مكلف، ولذا يقوم بها عادة، من لديه حد أدنى من المقومات، مثل القدرات الذهنية الجيدة، قوة البدن، قدر من المال، وفي العصر الحديث، هناك هجرة رأس المال، كما هجرة العقول، وبرفقتهما الهجرة لدواعٍ سياسية. ومن هذا فإن بلداناً كما الولايات المتحدة، بل ويمكن القول دول القارة الأميركية الشمالية والجنوبية، هي دول هجرة، فمكونها الرئيس نتج من ذلك، وحتى الساعة هي دول قابلة للهجرة، بغض النظر عن القوانين والوضع الاقتصادي. كما أن هذه القابلية للهجرة، تقابلها في الوجه الآخر للعُملة، قابلية دول لدفع سكانها إلى الهجرة، مثل أوروبا في القرن التاسع عشر، ثم شرق آسيا، وآسيا الوسطى في أول القرن العشرين، الذي ومنذ منتصفه، بات الشرق الأوسط بؤرة الهجرة الرئيسة ولا يزال حتى الآن. ومنذ بداية الألفية الثالثة أصبحت أفريقيا أيضاً مصدراً رئيساً للمهاجرين، بعدما كانت في قرون مضت، مصدراً للعبيد.

فوائد مزدوجة

الحقيقة المسكوت عنها، هي أن الهجرة تعود على طرفيها، الدول المُهاجر منها والمُهاجر إليها، بالفوائد، ويمكن ملاحظة أن المهاجر، يذهب إلى البلاد التي بحاجة إليه كما حاجته إليها، فلنأخذ مثالاً لتوضيح ذلك، من دول الشرق الأوسط العربية. لبنان، الذي يبلغ عدد سكانه المهاجرين أكثر من المقيمين فيه حالياً، فشكلت الهجرة ثروةً لهذا البلد، فجُعلت وزارة لهذه الثروة الوطنية! إضافة إلى أهميتها على مستوى رأس المال الرمزي، كمثل ما يعنيه الشاعر اللبناني جبران خليل جبران في العالم. لكن الوجه الآخر لعملة الهجرة هذه، هو أن الكثير من اللبنانيين، وحتى على مستوى سورية الكبرى، مهاجرون إلى دول غير غنية ولا متطورة، بل وحتى فقيرة ومتخلفة، دول في أميركا اللاتينية وأفريقيا، وقد تكون هاتان القارتان، مستوطن أغلب هؤلاء المهاجرين.

ويبيّن ذلك أن الهجرة القادرة، تذهب حيث بإمكانها أن تكون فاعلة، وحيث يمكنها أن تكوّن ثروة، بما فيها رأس المال الرمزي، كما يفعل الرياضيون والفنانون والعلماء والتقنيون والكتّاب وما في حكمهم. وحتى هذه الأيام والهجرة في عنفوانها، فإنها نتاج ظروف صعبة، يواجهها المهاجر في بلاده، واحتياج يفترضه في البلاد المرغوبة للهجرة إليها، فأوروبا قارة عجوز، بحاجة إلى تجديد دمائها وتقوية قدراتها، وحاجتها هذه في ازدياد لأجل تخطي أزماتها، هذا ما يُقال للمهاجرين عبر الميديا بخاصة في العصر السبراني، حيث يتمكن راغب الهجرة، في معرفة أدق التفاصيل عن أصغر قرية. كذلك فإن تجار الهجرة (رأسمالية الكوارث)، يعرفون ماذا يفعلون، ولأجل ذلكم يستثمرون أموالهم، في هذه البضاعة المزدهرة! وهذان الطرفان المهاجر والتاجر، يدخلان سوقاً رأسمالية غربية، تاريخية محنكة وشرسة، غايتها تبرر أن تحصل على ما تريد، بأقل التكاليف المادية والمعنوية، ولهذا الاعتبار عُممت عبارة "الهجرة غير الشرعية"، كي لا تتحمل أعباء المفقودين في ظروف الألفية الثالثة، بالبلاد الراغبة في الهجرة، حيث هناك وعي قوي لحقوق الإنسان، وحيث الأحزاب اليمينية تنهض كالعنقاء وتزداد تطرفاً، على الرغم من الحاجة المضطردة للمهاجر.

وفي هذه الأوضاع أيضاً، تتفاقم أحوال البلاد المصدِّرة، فسورية الكبرى تحولت أكثر إلى بلاد طاردة لأبنائها، وباتت المواطَنة تعني القدرة على الهجرة. أما أفريقيا فتدفع ضريبة باهظة لثقب الأوزون، فضاقت القارة على أهلها، وكما في سالف الأزمان، كانت القارة التي تفرغ من سكانها غصباً، يضطر شبابها اليوم بالغصب أيضاً إلى الهجرة. وفي غير هذين المكانين، تعم ظروف شائنة وقاسية، ترغم الناس على مغادرة البيت، والسعي في أرض الله الواسعة للبحث عن مستقَر.

 

*كاتب ليبي


شبكة الأمة برس
https://thenationpress.net

رابط المقال
https://thenationpress.net/articles-1009.html


تمت طباعة المقال بتاريخ 2024-03-28 05:03:07