اللغة شريكة المنافي
2020-07-01
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

حفرت كورونا قبوراً مادية حقيقية لأعزاء تقاسمنا معهم الحلم والمر، لكنها عمقت أكثر مأساة المنافي، وأصبح الموت يتحرك برأسين، رأس الجائحة ورأس العزلة القاسية، المنفى. كذب من يقول: اخترت منفاي؟ لا نختار شيئاً من هذا، ونحن نعرف جيداً أنه القنبلة الموقوتة الأكثر فتكاً التي توضع في داخلنا ببعض رضانا، وتكبر في السكينة إلى يوم تنفجر ولا تترك فينا شيئاً يذكر.

امتدت الهجرات العربية القسرية في السنوات الأخيرة بشكل مقلق، لأن العالم العربي يعيش حالة من الموت المبرمج دفعت بالكثير من الكتاب العرب والفنانين، حتى الناس العاديين، إلى هجر بلدانهم في السنوات الأخيرة في اتجاه المبهم. الثورات التي كان يفترض أن تعيد ترتيب الأشياء وتمنحنا مجمعات رومانسية جميلة، منحتنا خراباً معمماً بعد أن حادت عن مساراتها وتحولت إلى حروب أهلية مدمرة تدار من الخارج. لم يقتصر المنفى على المثقفين، ولكن على موجات تعد بالملايين التي اضطرت إلى تغيير مدنها، وحتى بلدانها.

في الجوهر، أي كتابة هي منفى، تنشأ داخل سلسلة من النظم الصعبة التي تنفيها، بما فيها النظام اللغوي الذي يؤطرها وينزع عنها جوهراً غير مرئي، أو النظام الاجتماعي الذي يملك مسطرة تسمح وتمنع حسب مزاج السياسي العام في الزمن الذي ينشأ في النص.

وأي منفى لا تخفف من شجونه وأثقاله، في النهاية، إلا الكتابة. وكأن الرابط بين الكتابة والمنفى يكاد يكون عضوياً. لا أتحدث عن المنفى الخياري، فذلك قد يكون خفيفاً، لأنه يتبطن فكرة الخيار الفردي، ولكن عن المنفى القسري بحيث يجد المبدع نفسه في مسالك شديدة الصعوبة كونها مسالك للحرية، وعليه أن يتعود عليها.

هل المنفى بالنسبة للمبدع فعل مضاد للكتابة مثلاً؟ سؤال يتكرر كثيراً، جرحه الكتاب المنفيون الألمان في الفترة النازية التي دفعت بالآلاف إلى مغادرة ألمانيا. هل هو قيد يجره المبدع وراءه مهما حاول التخلص منه كقدر لا يمكن تفاديه، ولا ينتهي وجوده إلا بنهاية المبدع نفسه؟ أم هو نوستالجية مستمرة، تنتهي بصاحبها إلى أحضان العزلة والإنجاز الفني الذي يحمل في عمقه كل كسورات التجربة الحياتية؟ من هنا، فمفردة المنفى إشكالية، ليست كباقي الكلام أبداً.

المنفى كلمة صغيرة تخبئ وراءها إرثاً بشرياً ثقيلاً ومراً، مخترقاً بالأشواق وآلام الفقدان، ومؤثثاً كذلك بالسعادات الصغيرة غير المرئية. الكاتب عموماً هو في عمق المنفى من حيث هو كاتب؟ اللغة تصنع عالماً موازياً يعج بتفاصيل الحياة التي نحس بانتماءاتها لنا ولكنها لا تنتمي في نهاية المطاف إلا إلى اللغة ونظامها الصارم. وإذن، أين يتجلى هذا المعنى العميق الذي تتبطَّنه هذه الكلمة المولدة للخوف ولمختلف الاهتزازات الداخلية؟ هل المنفى مثلاً هو افتقاد الأرض التي شيد عليها الفنان ذاكرته وأشواقه؟ فكم من أرض يملك الكاتب إذن: أرض الطفولة التي يفقدها في سن مبكرة ولا تستعيدها إلا الكتابة بشهواتها المختلفة ومخيالها الذي يهزنا بمتعته كلما توغلنا فيه مثلما حدث لفلادمير نابوكوف، وطوماس مان وابنه كلاوس مان، ونيكوس كزانتزاكي، وابن حزم، وابن رشد، وابن خلدون وغيرهم؟ أليس فعل الكتابة عن المكان هو اعتراف ضمني بالفقدان؟ هل هي أرض الشباب التي سرعان ما تنطفئ داخل مجتمعات متخلفة تحاسبك على فرادتك، وتتصيد تنفسك لأنه لا يشبه تنفس الآخرين وخرج عن نظام المجموعة الذي يجب ألا تُخترق؛ إذ ليس لك، في نظام الهيمنة والسيطرة، أن تتفرد وتفكر خارج منطق القطيع.

هل المنفى إذن هو الارتحال عن الأرض التي ليست هي الأرض الأولى، في اتجاه أرض أخرى يفترض أن تمنح الفنان المنفى الأمان والمحبة وبعضاً من الراحة والحرية على الخصوص؟ عن أي شيء يبحث الكاتب إذ يقبل بالرحيل نحو المنافي؟ عن وطن الحياة الكريمة؟ عن وطن العيش الحر، حيث يمشي ولا يلتفت وراءه كلما سمع وقعاً خشناً لأحذية؟ عن وطن الكتابة الذي ينشئ فيه كل حياته الموازية الجميلة؟ وإذن، ما هي الخسارات اللاحقة المتولدة عن هذا الترحيل ألقسري من أرضه الصغيرة التي نبت في حدائقها كأي زهرة برية باتجاه توطين ليس دائماً فعلاً هيناً؟ وماذا يمنح له هذا التنقل من اكتشافات جديدة يحافظ بها على الاستمرارية بمعناها الوجودي وليس البيولوجي فقط؟ الكثير من الفنانين والكتاب يصرحون في سيرهم أن المنفى يبدأ عموماً بكذبة يجملون بها النصوص والأشواق الدفينة، وينتهي بأن تصبح الكتابة فعلاً تراجيدياً.

المنفى ليس لعبة لفظية ولا كذبة تنفخ الذات بوصفها ذاتاً مقاومة ومناضلة، لكنه جرح بليغ صعب الرتق، تراجيديا الأنا الهشة في مواجهة يقينيات الآخر الصارمة. ماذا يبقى من تلك اللحظة المنكسرة والمعطلة المعطرة بماء السحر والخوف؟ لا شيء، سوى ألم عميق مبطن مثل المعدن الثمين، وروايات ولوحات وتماثيل ومقطوعات موسيقية كثيرة، مليئة بشيء أساسي: التعطش المستميت للحرية في عنفوانها الأقصى، وحياة فنية موازية تشهد أن حزن بداية المنافي كان كبيراً.

ولكي يستطيع الفنان العيش، عليه أن يقنع نفسه داخلياً بأن كل منفى هو فعل مؤقت، لكن الحقيقة المرة شيء آخر. منفى السنة يمكن أن يتحول في لحظة إلى عمر.

وإذ تطول سنوات المنافي تصغر كثيراً احتمالات العودة إلى الأرض الأم. لا سنة تشبه أختها أبداً. فجأة، يكتشف المنفي القسري، وهو أمام المرآة الطويلة التي تحتل وسط الخزانة، وهو يمشط ما تبقى من شعره أو يحلق وجهه المتعب، أن كل شيء تغير: هو لم يعد هو.

حتى عندما يعود إلى أرضه من حين لآخر، سيشعر بها وبناسها بعيدين، وأن ما كان يقبل به لم يعد قادراً على تحمله. مع الزمن يتحول المنفى إلى نظرة للحياة وفلسفة يستحيل التخلص منها، ويصبح التآلف مع الرداءة صعباً إلا إذا خلقت حياة موازية ترمي فيها كل ما لا يروق لك وتظل في ألقك الداخلي، وربما كان ذلك أقسى المنافي التي لا تشعر بها ولكنها تأكلك من الداخل إلى يوم تتجمع وتفاجئك بشهقة قلبية تشبه السكتة التراجيدية في كل شيء، حتى في طريقة إجهازها عليك.. تلك نهاية المنافي. قبلها بقليل، تطرح على نفسك بخجل سؤال النهايات: أي قبر سيضمّني، أي تربة سيمتزج جسدي بها وأتماهى فيها؟ فجأة، تكبر في وجهك صور ظننتَ أنك نسيتها، أمك، أخوك، أصدقاؤك الذين سحبتهم دوامة الموت في عز حياتهم.

تغمض عينيك وتفكر براحة غريبة تنزل عليك بشكل فجائي، عن مكان بجانبهم يتنفس عطرهم وذاكرتهم الزكية.

 

 



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي