مي زيادة وأمراء الجزائر؟ من العصفورية إلى الحرية
2020-05-12
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

قد يبدو الأمر غريباً ومستبعداً، ما علاقة عائلة الجزائري (أحفاد الأمير عبد القادر في بلاد الشام)، لكن من يقرأ كُتيّب أمين الريحاني «قصتي مع مي» الزاخر بالمعلومات، الذي يروي فيه مأساة مي وكيف تخلى عنها أقرب أصدقائها، وهو من ضمنهم، وكتاب الأستاذ غاريوس زيادة «مي زيادة.. شعلة الحرية»، مؤرخ عائلة زيادة الذي كان لي شرف اللقاء به في لبنان، في جونيا، عندما كنت في صدد إنجاز رواية: «مي/ ليالي إيزيس كوبيا»، يدرك الدور الفعال الذي لعبته هذه العائلة في إنقاذ مي من ظلم سلط عليها ولم تجد من وسيلة لرفعه إلا الاستنجاد بعائلة الجزائري التي كانت على علاقة وطيدة بها وتابعتها وهي في العصفورية وفي مستشفى ربيز.

كيف بدأت هذه العلاقة التي انتهت بإخراج مي من سجنها الظالم وسفرها إلى القاهرة؟ طبعاً، لقد شغلت قضية مي زيادة الكثير من المثقفين والملوك والرؤساء، والأطباء، والمفكرين والإعلاميين، والعائلات الشامية العريقة، بالخصوص عندما انفجرت قضيتها في ثلاثينيات القرن الماضي. أرشيف ذلك الزمن يحيلنا إلى حقائق لم تظهر بالشكل الكافي، وظلت طي الكتمان أو أن الاهتمام بها ظل محدوداً. فقد تفطنت عائلة الجزائري في وقت مبكر إلى مأساة مي.

أولى العلاقات بدأت عند زيارة مي لدمشق، لتقديم كتابها: «ملك ناصف، باحثة البادية». يومها، رحب بها الأمير سعيد، أحد أنشط أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري، في الحركة الثقافية والاجتماعية والسياسية في دمشق وبلاد الشام. المراسلات التي نشأت بينهما نسجت اللحظة الأولى لصداقة ستكبر داخل العائلة في أفق الإعجاب والاحترام.

لهذا، عندما اقتيدت مي إلى العصفورية، ثم إلى المستشفى الأمريكي، كانت هذه العائلة الشامية، ذات الأصول الجزائرية، حاضرة بقوة، بل لعبت دوراً مهماً في إنقاذها من جنون مؤكد، وموت في النسيان كما حدث للكثيرين والكثيرات. سهرت عليها حرم الأمير مختار عبد العزيز الجزائري، وهي من عائلة الأيوبي، حتى مغادرتها مستشفى ربيز، وكذلك بدرية الأيوبي، نسيبة الأمير مختار الجزائري، التي كانت وراء الحملة التي بذلت لمناصرة مي منذ يناير/ كانون الثاني 1938. فهي التي أخبرت عمتها وزوجها الأمير مختار والأمير أحمد. لم يصدقوا في البداية أنها مي التي تملأ كتبها بيوتهم.

 استمعوا إلى قصتها بالتفصيل من فمها. كانت مي تثق كثيراً في بدرية التي دفعت بالأميرات الجزائريات إلى الاتصال بزوجة القنصل المصري لإقناعه بضرورة رفع الحجر عن مي، بوصفها مواطنة مصرية. لكن يبدو أن القنصل كان على علاقة مصلحية وثيقة مع ابن عمها جوزيف الذي كان وراء إدخالها إلى العصفورية، فأغلق كل الأبواب.

وظلت عائلة الأمير المختار وأخوه أحمد، وأخواته يتابعون، برفقة أمين الريحاني، مستجدات وضع مي عن قرب. يذكر أمين الريحاني ذلك بوضوح في كتابه «قصتي مع مي»، وهو شاهد حقيقي وعيني على ما بذلته هذه العائلة من جهود نبيلة لإنقاذها. ويذكر الريحاني أنه عندما زارها في مستشفى ربيز، لأول مرة، وجدها محاطة بعطف وحنان نساء عائلة الجزائري.

نعرف اليوم بوضوح أكثر، وبالوثائق، كيف تدخل الأمير سعيد الجزائري لدى ملك الأردن عبد الله بن الشريف حسين بمحبة ولطف، راجياً منه أن يفعل شيئاً من أجل مي زيادة التي أدخلت ظلماً لمستشفى الأمراض العقلية. وأطلعه، بحكم علاقته الخاصة به، على قضية مي زيادة في رسالة خاصة، شرح له بالتفصيل قضيتها وظلم أهلها لها، وماذا تمثل مي ثقافياً في بلاد الشام والعالم العربي.

تأثر الملك عبد الله بقضيتها وتدخل بلا تردد لدى الرئيس اللبناني إميل أده، لرفع الحجر عن مي، من خلال رسالة قصيرة أثار انتباهه فيها إلى قضية مي: «ما كنت لأتدخل في أمر أحد رعايا لبنان لولا الرجاءات العديدة من كرام العوائل ورجالات العلم والأدب في لبنان، لأكون الملتمس عنهم من فخامتكم لتساعدوا الآنسة الشهيرة «مي» لخلاصها من المأزق الذي قيل إن البعض من أقاربها وضعوها فيه…»، وتلقى الملك عبد الله رسالة من الرئيس اللبناني إميل إده، بعد تحريه لقضيتها: « تناولت كتاب سموكم الذي كان له أفضل أثر في نفسي لما تضمنه من الشعور السامي والعطف على سيدة لبنانية من كبيرات سيدات العلم والأدب، وأحلت هذه الرعاية للعمل الذي تستحقه. ولما كنت أثق كل الثقة بنزاهة القضاء اللبناني وتدقيقه في إحقاق الحق، فلا شك في أنه سيتخذ يوم الإثنين القادم القرار الذي يؤيده العدل في هذه القضية…».

الرئيس إده، قبل أن يرد على ملك الأردن، أخذ المسألة بجدية وحرك وزارة العدل ووزارة الصحة وأطباء العصفورية وربيز المختصين، وأجهزة الدولة الفاعلة قضائياً، وتم تشكيل لجنة لدراسة وضعيتها الصحية، فخرجت قضيتها إلى العلن. الوثائق المتوفرة اليوم ومنها كتابات مي المنسية ووثيقة أمين الريحاني ومراسلات الأمير سعيد، تؤكد على الجهد الاستثنائي الذي بذلته عائلات الجزائري، الذي أفضى إلى نتائج كبيرة انتهت بإنقاذ مي من نهاية مأساوية.

فقد ظلت مي على تواصل كبير مع الأمير سعيد الجزائري، قيدوم عائلات الجزائري الشامية، من خلال الرسائل، بعضها موجود في كتاب «كتابات منسية» لأنتيا زيغلر. رسائل ثقافية وفكرية مهمة عرف من خلالها قيمة مي.

 ناقشت معه قضايا كثيرة بخصوص الاعتداء على المسيحيين في 1925 الذي لعب الأمير سعيد دوراً مهماً لإيقافه سراً أسوة بدور جده الأمير عبد القادر في أحداث 1860 في الجبل ودمشق، وتمكن يومها من إنقاذ أكثر من 15 ألف مسيحي كانوا مهددين بالإبادة الكلية. تقول مي: «عند حلول الكارثة (في 18 تشرين الأول- أكتوبر، 1925) كان أول ما فكر فيه آل الجزائري هو حماية المسيحيين، لأن الحكومة المحلية سحبت قواتها من حيهم وتركته بلا حماية.. وإنه في اليوم الثاني قد التجأ إلى آل الجزائري عائلات كثيرة من آل العجلان، القوتلي، والأيوبي، وغيرها، رجالاً ونساء وأطفالاً. بعد الحريق ذهب الأمير سعيد لمقابلة الجنرال غاملان، وطلب منه أن يتوقف عن ضرب البلد بالقنابل، وقد توقف بالفعل..».

هذه الصفحة من حياة مي ما تزال مجهولة إلى اليوم، على الرغم من توفر الكثير من المدونات التاريخية والثقافية التي اهتمت بذلك وسجلته.

مي لم تكن كاتبة لبنانية، أو فلسطينية أو مصرية، فحسب، ولكنها كانت مثقفة عربية بامتياز.



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي