حكاية حابي ورحلة كتابتها
2020-05-04
 بروين حبيب
بروين حبيب

منذ عشرين سنة وصالون الملتقى الذي أسسته الصديقة أسماء الصديق المطوع لم يتوقف عن القراءة، ومناقشة النصوص المقروءة بحضور الكاتب، أو بدونه. وقد كثّف نساء الصالون قراءاتهن خلال فترة الحجر الصحي، إذ نظّمن لقاءً مع الكاتب الكويتي طالب الرفاعي عن طريق أونلاين، وتمت مناقشة روايته «حابي» الصادرة عن دار ذات السلاسل أواخر السنة الماضية.

وعلى مدى أكثر من ساعتين أثيرت قضية التحول جنسيا على العديد من الأوجه، وطرحت أسئلة جريئة على الكاتب، أجاب عنها بتواضعه المعهود، حتى حين سألته أنت أب لبنات، هل تخيلت لو وُضعت في موقف مشابه لروايتك ماذا كنت ستفعل؟ فأجاب: كنت سأحتكم للعلم.

ثمة بطء في إيقاع هذه الرواية، لكنه البطء المستفز لصالحها، ففي تقطيعها الزمني تجري الأحداث على خطين زمنيين، أوله الخط الذي يضم أحداث بانكوك، إبان إجراء العملية، والثاني ما حدث في الكويت قبل إجرائها، يستعرض الصراعات العائلية بسبب «جنس ريان العجيب» والخيار الصعب للتحول لذكر، كونه اعتُبِر بنتا لفترة طويلة، بين ست بنات، وكل تحويل سيغير قواعد الميراث والحقوق.

كانت فكرة الرفاعي ذكية جدا لتمرير رسالة قوية ومهمة، تكشف مدى أهمية المال والثروة وتقسيمها للورثة، لتكون عصبا لكل الخلافات حول حالة ريان، بدون الدخول في متاهات الفتاوى الدينية، وما ذهب إليه شيوخ الدين، يسلك الكاتب مسلك العلم، ويقدّم أطروحته الروائية، مراوغا للرقابة، فلا كلمات نابية ولا ألفاظ مبتذلة في نصه، ولا مشاهد إيروتيكية. صحيح أن الرواية مبنية على قضية جندرية، لكن بطرح علمي يقوم على فكرة التشوه الخلقي، الذي يمكن تصحيحه، كأي تشوه آخر.

يبدو لي أن الرفاعي استفاد كثيرا من تكونه في الكتابة الإبداعية التي أخذها في بريطانيا، وقد اجتهد في تطبيق معارفه ليجعل من نصه سلسا، قريبا من المستويات كلها، مثيرا للجدل بدون بلوغ حدّ الغضب الذي ينسف بالأفكار الواردة فيه، فقد نالت الرواية الكثير من الاهتمام، ونوقشت على منصات إلكترونية كثيرة، تناقضت الآراء بشأنها، تصارعت ولكنها متفقة على أنها أنصفت هذه الفئة من الناس، التي تعيش معاناتها في عزلة عن المجتمع، الذي يدينها لسبب لا دخل لها فيه.

قسّم الكاتب الرواية إلى قسمين، القسم حا، والقسم بي، وهما شقا كلمة «حابي» التي تحيلنا إلى إله من آلهة مصر القديمة، بتكوين مزدوج الجنس (ذكر وأنثى في الوقت نفسه)، أما الشخصيات فمعظمها سلبية في التعامل مع ريان، إلا الأم التي تمنت طول عمرها أن تنجب صبيا، وفي ما بعد أخته مريم التي يتولى زوجها المحامي قضيته، أمّا قسوة الأب فهي القسوة التي تنصب على الإناث في أغلب المجتمعات العربية، يفرغ فيه الكاتب كل الصفات القبيحة، من استهتار وخيانة لزوجته، وكرهه لريان لدرجة تمنيه موتها، أو حتى قتلها لاعتبارها أنثى خوفا من كلام الناس، فقد كان على مدى الأحداث يفكر فقط في ما سيقوله للناس، أمّا الأم فهي الحاضنة لريان، سواء قبل تحولها، أو بعد أن أجرت العملية وأصبحت رجلا، وهي أم عظيمة، تمثل نموذجا فريدا من الأمهات اللواتي يذهبن في تضحياتهن من أجل أبنائهن إلى أقاصي التجارب الحياتية.

  كم هائل من المعلومات العلمية يزخر به النص، وهذا هو سلاح الرفاعي للانتصار لحق ريان إنسانيا وشرعيا في خياره، إذ لا يمكن اعتبار بطل الرواية أنثى أمام نتائج الفحوص الجينية، التي أثبتت ذكورته، إنها ليست رواية للإمتاع، بقدر ما هي نص مندرج تحت باب الوعي والضمير

يختلف طرح الرفاعي لقضية التشوه الخلقي، وحق التحول، بدون الدخول في تفاصيل المثلية الجنسية، إذ نعرف أن روائيين عربا كثيرين ناقشوا هذه الفكرة، مثل هدى بركات في «حجر الضحك»، وعالية ممدوح في «المحبوبات»، هذا غير الموجة الإباحية التي تصدرت بأسماء مستعارة، نصوصا كثيرة خاصة ما صدر منها في السعودية بعد رواية «بنات الرياض»، التي لم تستقر في الذاكرة، بل مرت مرور الكرام.

تختلف حكاية ريان عن كل ما طرح في نصوص روائية سابقة، فهي نص قائم على وقائع حقيقية، لأن الكاتب نفسه تحدث عن لقائه ببطله، في مكان خارج البلاد، بسبب رفض العائلة لما قد يلحق بها من عار، وما قد يسببه المجتمع له من أذى لو عُرِف أنه في ماضيه كان أنثى، وهذا اللقاء هو الذي يجعل الرواية تصب في باب المختلف، نحن هنا أمام رحلة لتعرّف الروح على الجسد الذي تسكنه، وهذا هو البُعد الذي فات كتابنا الذين تطرقوا لموضوعات مماثلة للتوغل فيه. صحيح أن الرواية تعرّضت لكثير من النّقد، منها ما تعلّق بشخصية ريان نفسه، وطبيعة الشخصيات حوله، التي حاولت التحكم في مصيره، وتجريده من حقه في تقرير مصيره، إلاّ أن وقائع الرواية محبوكة بخيوط المخيلة، بدون تدخل مبالغ فيه لتكثيف الحدث الرئيس.

كم هائل من المعلومات العلمية يزخر به النص، وهذا هو سلاح الرفاعي للانتصار لحق ريان إنسانيا وشرعيا في خياره، إذ لا يمكن اعتبار بطل الرواية أنثى أمام نتائج الفحوص الجينية، التي أثبتت ذكورته، إنها ليست رواية للإمتاع، بقدر ما هي نص مندرج تحت باب الوعي والضمير. هل يجب أن نذهب بعيدا في إسقاطاتنا بما ورد في الرواية؟ يقول الرفاعي أن روايته لا تخرج عن الإطار الذي قدمت فيه، وأي إسقاط سياسي لها فهو أمر لم يقصده، بل يخص القارئ.

فقد حضّر وتحضر لها على مدى سنة كاملة، فقرأ مراجع كثيرة تشرح هذه المعضلة، ثم بدأ في كتابتها متقمصا دور الأنثى في القسم الأول، قبل أن يتقمص شخصية الراوي السارد بصوت ذكر، كما قدم الرواية، وهي بعد مخطوطة لطبيبين لقراءتها ولمستشار قانوني، للتأكد من أنه لم يقع في أخطاء تُحسب عليه.

لقد لعب الروائي هنا دورا إنسانيا بأدبه، وأعتقد أن هذا من أهم الجوانب الخفية للأدب، ولا نعرفها أو لا نعترف بها، إنه دور المصالحة مع ذواتنا. يخبرنا طالب الرفاعي أن أم ريان بعد قراءتها لروايته قالت له «لقد أنصفتنا أمام المجتمع»، كانت الرواية عزاء لها، ومن جانب آخر كانت عملية تصحيحية لأفكار خاطئة، تجلد الضحية، بدون النظر لعمق مأساتها.

وفي المجمل يهمني أن أشيد بأدب الرفاعي، ليس فقط لأنه أنصف حابي، بل لأنه كتب أدب المهمشين بامتياز، ثمة سمة يتصف بها، كونه يلقي أضواءه الكاشفة على فئات «تشبهه كما يقول» وهي تلك الفئات التي تصنع الحياة بدون أن تُمنَح لها فرصة الظهور، إلا في حابي فقد ألقى أضواءه على شخصية أبعد من المهمشين بكثير، إنها ليست البقال، أو عامل النظافة، أو البستاني، أو الخادمة، بل الشخص المزعج بوجوده، الذي يتمنى من حوله أن يختفي ويتلاشى، المسالم تماما بدون أن يبدر منه الأذى تجاه أي شخص.

ما أريد قوله كخلاصة، أني بعد قراءتي للرواية ومناقشتها مع صديقات الملتقى، اكتشفت متعتها الحقيقية، لقد أضافت القراءات المتنوعة والمختلفة للقارئات الكثير للرواية، وخلصت إلى أن أي عمل روائي مهما بدا لنا ناقصا، فهو تماما كما قال الرفاعي، إنه الولد الذي تنجبه أمه بعد معاناة حمل وولادة، ومن المستحيل رده لبطنها من أجل إضافات ما، وإنجابه مرة أخرى، كل ما يلزم تلك الأم هو أن ترعاه وتترك الحياة تحدث عليه إضافاتها.

كل الأسئلة التي أثارتها الرواية حول تفصيلات تخص ريان، وشخصيات الرواية، كانت فرصة جميلة لمعرفة كواليسها وخلفيات كتابتها، لقد تأكدت أن المتعة كل المتعة ليس الرواية نفسها، بل حكاية الرواية، خاصة في جلسة جمعت أكثر من ثلاثين قارئة حول الكاتب في زمن الحجر الذي أرهقنا بعزلنا عن العالم.

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين


مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي