باريس: صمت يُصِمُّ الآذان: التلوث بالصمت!
2020-05-03
غادة السمان
غادة السمان

قبل أشهر كنت أكتب عن «التلوث الصوتي» وضجيج باريس الذي لا يطاق كما في العواصم الكبيرة كلها، حتى أن أحد المسنين المتقاعدين أطلق النار على صبيان في الحي الباريسي العتيق، ضيق الشوارع، وذلك لأن الضجيج تحت نافذته جعله يفقد عقله (كما قال معتذراً)، ولحسن الحظ لم يقتل أحداً.

أما اليوم فيخيم على باريس وعواصم العالم الكبيرة الصاخبة صمت فتاك.. إنه صمت يصم الآذان بصراخه السري الذي نسمعه دون أن نسمعه: أنا السيد الموت، واسمي هذه المرة كورونا.

أجل، يخيم على باريس صمت المقابر، حتى أنني صرت أفرح بصوت سيارات الإسعاف.. وصوت المترو قطار الأنفاق الذي صار يمر نادراً على أحد جسور باريس القريبة مني.. ونباح كلب في الشارع.. وزقزقة عصافير الربيع. نعم، ثمة أيضاً تلوث نكتشفه هذه الأيام اسمه التلوث بالصمت.. صمت المقابر.

العواصم مقابر شاسعة مع وقف التنفيذ!

كل صباح حين أستيقظ أقول: صباح الخير أيها الموت، وأحمد الخالق الذي منحني يوماً آخر في كوكبنا.

كل ضوضاء كانت تضايقني صرت أحن إليها!

أبواق السيارات النزقة.. الشجار في الطرقات.. الموسيقى عالية الصوت في المراكب الضوئية على صفحة نهر السين.

وما أكثر الكلام عن عدد الوفيات اليومية على شاشات التليفزيون، حتى صرت أشتهي أن يسبق تلك الإحصاءات عن عدد الموتى والمرشحين للموت من المصابين بمرض الكورونا.. أتمنى أن يسبقها الحديث عن تجارب العلماء في حقل اكتشاف لقاح ضد ذلك الوباء العالمي والعلاج له.

ولضيقي من الصمت الذي يصم الآذان، صرت أستمع بسرور لصوت التصفيق المتعالي من ناطحات السحاب المحيطة بي في الثامنة مساء، وأشارك فيه.. هذا التصفيق تحية للأطباء والممرضين والممرضات وجميع العاملين في حقل معالجة المرضى بالكورونا وقد أكون غداً من بينهم.

وكان العديد من الأطباء والممرضـــات أصيــب بالعدوى ومات بالوباء.

أغنية أم نبوءة؟

من «إذاعة الشرق» في باريس استمعت إلى أغنية قديمة بصوت الفنانة الكبيرة فيروز.. وكانت تغني أغنية تقول «خليك بالبيت»!

وبعدها حين جلست أمام التليفزيون أتسول الأخبار، كان على الشاشة باستمرار عبارة «خليك في البيت» بالفرنسية وعلى القنوات كلها.

أغنية فيروز صارت نشيد العالم!

معظم المحطات التليفزيونية الغربية تكتب على شاشاتها عبارة «خليك بالبيت»، وذلك كي لا ينتقل للمتفرج فيروس الوباء العالمي كورونا أو لا ينقله للآخرين.

كما بدأت التليفزيونات برامجها إلى أفلام مسلية وضاحكة لتساعد الناس على مكافحة اكتئاب السجن الصحي الإرغامي في البيت. تُرى هل خطر ببال الرائعة المطربة فيروز حين غنت «خليك بالبيت» أن هذه الأغنية ستصير نشيد نصف العالم وملايين البشر الذين قررت وزارات الصحة أنه من الأفضل لهم عدم مغادرة البيت حرصاً على صحتهم والآخرين!

اليوم لم يعد الحب هو السبب في البقاء في البيت، بل الخوف من المكروه (الأخ) كورونا!

المرأة هي دوماً الضحية!

ومع بقاء الرجال والأولاد في البيت بعد إغلاق المدارس والمكاتب، ازداد الشعور بالاختناق لدى الجميع، وبالتالي.. ضرب الأزواج لنسائهم وتزايد العنف المنزلي. الزوجة أيضاً (تختنق) نفسياً كالرجل، لكنها لا تضرب زوجها، بدليل أن النساء النادرات اللواتي يضربن الزوج أو الحبيب تنشر أخبارهن في الصفحات الأولى من الصحف لندرة ذلك. كان الصحافي المصري مصطفى أمين يقول: عض كلب رجلاً ليس خبراً للنشر، الخبر هو عض رجل كلباً!! أما ضرب الرجل لزوجته فيبدو خبراً مألوفاً لا نسمع به إلا إذا قتلها. ولذا، ثمة رقم هاتفي للشرطة في فرنسا تستطيع المرأة (المعنفة) المضروبة الاتصال به لطلب النجدة. ولكن بعض النساء يضربن الأزواج نادراً ويخجل الرجال من الاعتراف بذلك أو الشكوى!

مع وباء كورونا ومنع التجول إلا لأسباب تراقبها الشرطة، صارت المرأة غالباً هي الضحية لرجل يختنق في السجن الصحي في البيت، ولكن.. ألا تختنق هي أيضاً؟

عدوة (الكمامات) تبحث عن كمامة!

طوال عمري وأنا أكتب ضد الكمامات (الفكرية) التي تحاول بعض الأنظمة وضعها على أفواه أبجديتنا لكي لا نقول ما نجده الحقيقة وما يهمها أن تخفيه.

بعد ذلك العمر الأبجدي الطويل مع رفض الكمامات الأبجدية والدفاع عن حرية الفكر والحوار مع الآخر المختلف في الرأي، قضيت يومي وأنا أنتقل بين صيدلية وأخرى بحثاً عن كمامة بالمعنى الحرفي للكلمة، لشرائها لحمايتي من وباء الكورونا وحماية الآخرين من المرض إن كنت مصابة به ولا أدري ذلك. فكثير من الناس يحمل فيروسات الكورونا دون أن يمرض بها، وينقلها للآخرين كساعي بريد الموت!

واشتريت كمامة وكم أكرهها، ربما أكثر من كرهي لوباء الكورونا طاعون العصر، ولكني مضطرة إلى ارتدائها على وجهي كالسارقين.. فأنا أحاول سرقة حياتي من الطاعون العصري: كورونا.

عالم عربي يخترع العلاج للوباء، متى؟

كانت جدتي تردد المثل الشامي العتيق: الجنة بلا ناس ما بتنداس!.. أي المكان الخاوي موحش مهما كان جميلاً. وهكذا، فأنا أتأمل من نافذتي «ممر البجع» مقابل بيتي كما يدعى، وهو شارع ضيق محاط بالأشجار يقسم نهر السين إلى شطرين، وكنت أذهب إليه دائماً للتنزه والمشي والجلوس على مقاعده العامة وأحياناً أحمل معي طعامي لالتهامه أمام هذا المنظر الباريسي نادر الجمال.

اليوم شعرت بالحاجة إلى المشي هناك وسط أشجار على جانبيه تعلن قدوم الربيع، لكنني لم أجرؤ على ذلك، إذ كان «ممر البجع» خاوياً من الناس تماماً.. وحتى البجعات التي كانت تطفو إلى جواره اختفت.. «والجنة بلا ناس ما بتنداس» أي حتى الجنة عليها أن تكون مأهولة لتكون جنة!

الآن صارت باريس جنة (بلا ناس)، ولذا نفذت تعاليم أغنية المطربة الكبيرة فيروز (خليك بالبيت) وبقيت في بيتي خلف نافذتي، ويا له من (سيران) بائس تحت حكم الإمبراطور كورونا!

ترى، متى يجد العلم اللقاح له كما حدث مع وباء الجدري والسل وغيرهما من الأمراض التي لم تعد تحكمنا؟

وهل يقوم بذلك الاكتشاف عالم عربي لنفخر به، ولم لا وقد كان العرب سادة الاكتشاف من عصور الازدهار الماضية، وتعلمت أوروبا الكثير من معارفهم في الطب.. ترى هل سينقذ كوكبنا من كورونا باحث طبيب عربي الجنسية يعيد لنا أمجاد العرب الغابرة في حقول علم الطب؟



مقالات أخرى للكاتب

  • سأذهب للنزهة فوق قبوركم!
  • الأميرة الغائبة عن لبنان: الكهرباء!
  • راشانا: من قرية لبنانية إلى منارة عالمية!





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي